في تصريحها الأخير، قالت وزير الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون “إن دعم التغيير في العالم العربي مصلحة استراتيجية أمريكية”، هذا التصريح هو الأكثر وضوحاً وصراحة بخصوص موقف الولايات المتحدة الأمريكية الرسمي من التحولات التي يشهدها العالم العربي، وأمام محاولات إحداث تغيير في بنية النظام السياسي العربي في أكثر من بلد، بما في ذلك إمكانية الانقلاب عليه سلمياً أو عسكرياً أو سلمياً - عسكريا في ذات الوقت (من المثال الليبي إلى المثال المصري إلى المثال اليمني إلى المثال السوري).
فالتغيير الذي أسهمت ولاتزال الولايات المتحدة الأمريكية تسهم فيه هو مصلحة أمريكية بداية، وفقاً لتصورها لمستقبل المنطقة ولمصالحها الجيوسياسية فيها بدعم القوى “المستقبلية” من وجهة نظرها، والتي يمكن أن تؤمن لها مصالحها لعقود عديدة في مواجهة القوى التقليدية (الحكومات والعائلات الحاكمة في البلدان العربية)، في ظل خارطة المصالح الجديدة للولايات المتحدة الأمريكية وهي خارطة لا علاقة لها ببقاء أوباما أو برحيله، لأنها مثلما قالت كلينتون “مصلحة استراتيجية”، بمعنى لا تراجع عنها مهما تغيرت الإدارات الحاكمة.
فإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية في الماضي حريصة على التدخل المباشر في الدول التي ترى أنها ضمن دائرة مصالحها الاستراتيجية، فإنها اليوم تتخذ سبيلاً جديداً لتحقيق نفس الأهداف والمصالح، وهو سبيل أقل كلفة مادية وبشرية وأخلاقية. فقد كانت الإدارات الأمريكية في السابق تتدخل مباشرة فتساعد على الانقلابات وإثارة الفتن، ويكفي هنا أن نذكِّر هنا بمثال سلفادور الندي (وهو أول رئيس دولة في أمريكا اللاتينية ذي خلفية ماركسية انتخب بشكل ديمقراطي، واحتل منصب رئيس جمهورية تشيلي منذ 1971 وحتى 1973 قبل أن يطيح به الانقلاب العسكري الذي خططت له الإدارة الأمريكية مع الطغمة العسكرية التي أقامت أسوأ حكم عسكري ديكتاتوري في أمريكا اللاتينية)، والمثال الثاني يتمثل في تورط الولايات المتحدة الأمريكية في الانقلاب على الشرعية في إيران ضد حكومة محمد مصدق (بين 1951/1953) بسبب رفضه هيمنة الامبريالية الغربية وقيامه بتأميم النفط.
أما اليوم، فإن الولايات المتحدة الامريكية تنشئ “المعاهد الديمقراطية” بدلاً من القواعد العسكرية، فتجند الرجال والنساء وتهذبهم سياسياً وتدربهم على الكلام والأفعال والأقوال، وحتى على اللباس وتصفيف الشعر، في سياق اللعبة نفسها، وقد نجحت في بعض الأحيان في ذلك مما شجعها على الاستمرار والتوسع في هذا المجال، لكنها حتى إن فشلت في بعض الحالات فإنها لن تتراجع أبداً عن السير قدما في هذا الاتجاه لأن المسألة “مصلحة استراتيجية” مثلما قالت كلينتون.
وأياً كان الموقف من الاستراتيجية الأمريكية الجديدة (التكيف والإرضاء -أو التواطؤ والانخراط في المؤامرة- أو المقاومة لها) فمن الواضح أن الأهداف البعيدة المدى للامبريالية الأمريكية لن تنسجم مع هذه الاستجابات بأي حال من الأحوال، إذ أنها تسعى من خلال مخططها الاستراتيجي، ليس إلى تغيير الأنظمة وإحلال أنظمة أخرى، بل إن أهدافها أبعد من ذلك بكثير، فهي ستطال بنية المجتمع والعمل على تغيير القيم والتقاليد والثوابت والمفاهيم والهوية التي تؤسس لمقاومة الظلم والاستغلال والاستعمار، لذلك سيكون واهماً من يعتقد بإمكانية جني مكاسب من خلال محاولات التكيف مع هذه الاستراتيجية أو الاستفادة منها لإحداث أي تغيير سياسي.
فإذا كان تغيير الأنظمة هو الشرط الضروري عند الامبريالية الأمريكية للسير في مخططها اللاحق الذي لا تستطيع التراجع عنه، فإنها وبمجرد تحقق هذا الهدف المرحلي، سوف تُجبر الأنظمة الجديدة على تقديم المزيد من التنازلات، والتقدم إلى الأمام بأقل الخسائر وبأسرع وقت نحو أهدافها اللاحقة، لأن الإدارة الأمريكية ليست جمعية خيرية تريد مصلحة الشعوب العربية، كما قد يتوهم السذج منا.
لذلك نذكر الذين يريدون الاستفادة من هذه الاستراتيجية ومفاعيلها لجني مكاسب سريعة، أن الامبريالية الأمريكية لن ترضى إلاّ بالعملاء والتابعين ليس لتطبيق ديمقراطيتها، بل لتطبيق أشد أشكال الرجعية والقمع والاضطهاد والتفتيت.
إن هذا الوضوح في الاستراتيجية الأمريكية يجب أخذه مأخذ الجد والتعامل معه بطريقة جادة، ونعتقد أن أفضل السبل لقطع الطريق أمام هذا التدخل في الشؤون الداخلية بما في ذلك “التدخل الديمقراطي” يجب أن يكون بالاتجاه فوراً ودون إبطاء نحو ترسيخ الديمقراطية وكسب الإرادة الشعبية وتفكيك الأزمات بشكل جذري، وإنجاز التغيير المطلوب والمناسب لنا في الوقت المناسب، بأيدينا لا بأيدي غيرنا، وليس سراً أن أفضل هذه السبل لتأمين كرامة الوطن والمواطن هو تلبية الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية الحقيقية للمجتمع، وتعزيز الحريات العامة والخاصة في مواجهة آلة التواطؤ والتفريط.