المعيار القاطع في السياسة، ليس أن تكون جيداً أو شريراً، وليس أن تكون ضعيفاً أو قوياً، ولكن أن تكون سعيداً أو كئيباً في هذه السياسة التي تختارها، وفي هذا الإطار، فإن الغاية تبرر الوسيلة، فالمهم هو نتيجة هذا القرار. هكذا تحدث مكيافيللي قبل عدة قرون، وهكذا يفكر البعض عندنا: فلا مبادئ ولا قيم في السياسة، كل أمر مشين قد يصبح وفق هذه المعادلة ممكناً.
ومع ذلك يظل الحوار أفضل من اللاحوار طالما أننا نستحضر الثوابت والحقائق دون تزييف أو خداع، ومن ذلك أن الدولة، وخلال السنوات الماضية، وفي ظل مشروع الإصلاح السياسي، قد أسهمت بشكل ملموس في اختصار المسافة نحو الحوار الوطني، ضمن أفق التدرج، تدرج يراعي الابتعاد عن القفزات في المجهول، حيث فتح المشروع في أكثر من محطة الطريق نحو الحوار الوطني، من خلال فتح صفحة جديدة، في كل مرة تتراكم فيها الأمور وتحتاج إلى مخرج، بما أسهم دوماً في تعزيز الثقة وإفساح المجال أمام أبناء الوطن جميعاً للمساهمة في مسيرة التنمية والبناء، وكان على القوى الوطنية، وخاصة ذات الوزن في التأثير على الجمهور، والممثلة في البرلمان أن تضطلع بدور حيوي في البناء الديمقراطي والانتقال بالحوار نحو أفق التقدم نحو الاستحقاقات الديمقراطية العملية وتجسيم التطلعات أو ما أمكن منها في كل مرحلة، فمن هو الذي يرفض الحوار إذن؟؟
المشكلة أن كثيراً ممن يرفعون شعار الحوار لا يقصدون به الحوار بمعناه الفكري والسياسي والديمقراطي، وإنما يقصدون به فرض أجندة مطالبات مسبقة على السلطة أن تستجيب لها، وهذا أمر لا يخلو من تبسيط للشأن السياسي ومنطقه الناظم له، فالحوار يكون أخذاً وعطاء بمقدار الظروف المحيطة والتوازنات والإمكانيات.
إن القوى السياسية الرئيسة والمؤثرة ممثلة في البرلمان «أو كانت ممثلة قبل انسحاب الوفاق»، وبعض القوى الأخرى كانت ليست ببعيدة عنه، وعن منطق الوصول إليه، والعمل من خلال آلياته، ولذلك فإن هذا الفضاء المؤسسي كان أفضل مكان للحوار المنظم، وفي هذا الفضاء الدستوري كان يمكن أن يتم احتضان مثل هذا الحوار بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، تعاوناً وتجاذباً ونقاشاً وتفاوضاً وتواصلاً ورقابة ومحاسبة وتطويراً للحياة السياسية ضمن أفق وطني حقيقي وجاد للدفع بالتجربة الديمقراطية نحو أفق أوسع وآن تدريجياً.
وهذا الأمر يطرح عدداً من الأسئلة المهمة التي تتطلب إجابات صريحة وشجاعة من كافة الأطراف إذا ما أريد حقيقة الخروج من عنق الزجاجة، منها:
أولاً: لماذا البحث عن أطر خارج المجلس الوطني، قد لا تكون - لأسباب كثيرة سياسية وقانونية وحتى نفسية - قادرة على أن تكون جامعة وفاعلة وفعالة؟؟ ألا يجب بداية، استعادة القوى القادرة والمطالبة بالحوار إلى قبة البرلمان من خلال انتخابات تشريعية جديدة وسابقة لأوانها يتم التمهيد لها بالاتفاق بين مكونات الشعب والسلطة التنفيذية على أجندة مشتركة تسهل عملية الانتخاب ليكون البرلمان بعد ذلك الإطار المناسب لاستكمال الحوار وإحداث التطوير الدستور والسياسي؟؟
ثانياً: هل يمكن تأخير الحوار إلى ذلك الحين؟ لا أحد يدعو إلى تأخير الحوار أو تعطيله في أي فضاء كان، فالحوار عمل يومي دؤوب حتى داخل الحزب الواحد، فما بالك بين الأحزاب والقوى السياسية فيما بينها وبين السلطة وأجهزتها المختلفة.
ثالثاً:هل يمكن أن يستبعد من الحوار بعض الأطراف والاقتصار على أطراف دون غيرها؟ المنطق يقول إن كل من يؤمن بالحوار وجدواه، ويؤمن بالشرعية وبالأطر القانونية والدستورية يجب أن يكون جزءاً من الحوار الوطني، إلا أنه لا يمكن في جميع الأحوال أن يدخل اللعبة من لا يؤمن بقواعدها.