عندما نواجه جماعات حقوق الإنسان (بغض النظر هنا عن مصداقيتها واستقلاليتها عن الأحزاب السياسية) بمخاطر اللجوء إلى الخارج وما قد يجره من تدخل خارجي قد يمس بسيادة البلاد، يجيبوننا مباشرة ودون تردد؛ إنّ منع التدخّل لا يعنينا كونه لا ينطبق إلا على العلاقات بين دولة ودولة، ومن ثمّ، وبدل أن يؤكّدوا أنهم، بنجدتهم لضحايا الجرائم والكوارث، لا يرتكبون أيّ تدخل، اختاروا تشريع تدخلهم هذا باسم دوافعه (حقوق الإنسان)، وأن التخوف من التدخل والمس بالسيادة لا يجب أن يمنع من حماية حقوق الإنسان، خصوصاً أن بعض الأنظمة تتذرع بمفهوم السيادة لممارسة أقصى أنواع الانتهاكات ضد شعوبها.
على الصعيد الأممي اعتقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة أنها ترفع الغطاء بحذر، عندما تبنّت، في العام 1988، القرار الذي يسمح للمنظمات المشتركة بين الحكومات وتلك غير الحكومية بتقديم العون إلى «ضحايا الكوارث الطبيعية والحالات الطارئة». بيد أن وضع «حق التدخل» هذا موضع التنفيذ، والذي يتطلّب امتلاك الوسائل لتنفيذه، جعل الدول المسيطرة تتصرّف به على هواها. وسرعان ما ولجت الدول الكبرى (لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية) هذه الفجوة في يوغوسلافيا السابقة والعراق وأفغانستان بشكل مباشر وبمساندة هيئات الأمم المتحدة في بعض الأحيان وبتسهيل من بعض قوى الداخل، تحت عناوين مختلفة.
وتطبيقاً لاتفاقيات دايتون، أعطى مجلس الأمن الحلف الأطلسي صلاحية حفظ الأمن (أي تطبيق ما قامت الأمم المتحدة من أجله)، كما إنّ القوة الدولية، المخوّلة بتطبيق الاتفاق، وُضعت تحت إمرة الحلف الأطلسي، ممّا يتعارض بشكل فاضح مع شرعة الأمم المتحدة والمادة 53 منها. هكذا، فإنّ حقّ التدخّل المزعوم، والذي بمقدور الدول الكبرى وحدها تطبيقه عملياً، يستعيد الإمبريالية القديمة المغلَّفة بشيء من الأخلاقية المزيفة وادعاء نشر الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان، مذكرة بالعام 1789، عندما صوتت الجمعية الوطنية الفرنسية على شرعية احتلال عدد من الدول مؤكدة أنه لا سيادة للشعوب المتخلفة، بما سهّل الانزلاق نحو الفتوحات الاستعمارية والإمبريالية، في القرنيْن التاسع عشر والعشرين، حيث ادّعى الغزاة أنهم يمنحون بنية دولة إلى الشعوب «العاجزة» عن إقامتها بنفسها، وتعود اليوم الممارسات والمواقف الاستعمارية في ثوب جديد يتستر بحقوق الإنسان ونشر الديمقراطية، ومن خلال إعداد وتكوين وتمويل قوى داخلية تكون بمثابة جسر لعبور الخارج إلى الداخل ومنحه نوعاً من الشرعية، نمت خلال الظهور أطراف فاعلة جديدة، كالجمعيات والمنظمات غير الحكومية والحركات الاجتماعية التي يتزايد حضورها في إطار الأمم المتحدة، كما في اللجنة الفرعية لحقوق الإنسان: «ما عاد ممكناً للدولة، في شكلها التقليدي الموروث عن عصر الأنوار، الادعاء بأنها الحيّز الشرعي الوحيد للنقاش العام والعمل المشترك».
إنّ جزءاً مما يسمى بـ «المجتمع المدني» قد أصبح اليوم لا يعمل بمبدأ الوطني، بالرغم من كونه يعلن أنه يمثل الشعب، وهو في الحقيقة -ومهما بلغت أهميته- لا يمكنه الحلول محلّ المواطنين، ولا يُفترَض به تمثيلهم. ليس هنا من تناقض محتمل بين شبكة الجمعيات والدول كممثلين للأمم والشعوب، بل البذور الأولى لتعاون ضروري يفترض أن يكون على أساس وطني، وعلى أساس حماية الاستقلال والسيادة الوطنية، ورفض انتهاك مبدأ السيادة الوطنية والتي لاتزال تُمثّل، عند العديد من دول العالم الثالث، مطلباً للشعوب المكافحة ضدّ الظلم الاجتماعي أو أطماع الجيران الأقوياء، وبالفعل، فإنّ الدولة لاتزال تمثّل الإطار، المُحتمَل على الأقل، لممارسة السلطة الديمقراطية وتأكيد حضور الشعوب وتكريس الاستقلال الوطني، وحماية الثروة الوطنية، بسبب تمتّعها ببناء صلب للدفاع عن حقوق المواطنين والحؤول دون الاستغلال الدولي للموارد من قبل الشركات متعدّدة الجنسية، بيد أنه ليس من قدر العالم أن يبقى في مواجهة هذا الوضع المتكالب الذي تتعرض فيه العديد من الدول لانتهاك سيادتها بأشكال متعددة.