«إنه الاقتصاد يا غبي»؛ شعار تمكن من خلاله محام أمريكي في الأربعين من العمر أن يهزم رئيساً مخضرماً، جاء إلى الرئاسة الأولى من نيابة الرئاسة، وإلى نيابة الرئاسة من مديرية الاستخبارات، وجاء إلى هذه المناصب جميعاً من بيئة مالية نفطية قلّما خلت شركة بارزة من شركاتها من اسمه أو اسم أحد أبنائه عضواً في مجلس إدارتها أو مساهماً كبيراً من مساهميها.
تلك كانت قصة بيل كلينتون مع جورج بوش الأب الذي لم تحّصنه رئاسته من السقوط الانتخابي، ولا حالت «أمجاده» في الحرب الأولى على العراق 1991 دون فشله في سباق مع مرشح بعمر أولاده، ولا مكّنته دعوته المبكرة إلى النظام العالمي الجديد من أن «يجّدد» لنفسه ولاية ثانية.
«إنه الاقتصاد يا غبي»؛ شعار مكّن الرئيس الأمريكي باراك حسين أوباما من السباق الرئاسي قبل أربع سنوات، كما مكنّه اليوم، وهو الأسود ذي الجذور الإسلامية، من أن يحافظ على إقامته في البيت الأبيض العابق «ببخور» البروتستانتية الإنكلوسكسونية البيضاء (Wasp) بعد أن حصد أصوات الولايات الكبرى التي تتقدم فيها الهموم الاجتماعية على الأوهام العنصرية، والأولويات الاقتصادية على العصبيات العرقية، وتحديات المستقبل على ذكريات الماضي.
والاقتصاد بالنسبة للمجتمع الأمريكي (الذي أوصله نظامه الرأسمالي الاحتكاري الربوي إلى حافة الهاوية دون أن يقدّم له فرص النجاة من السقوط المدّوي في تلك الهاوية) لم يعّد مجرد أرقام تتراقص أمامه في البورصة هبوطاً أو صعوداً، أو إحصاءات بات الكثير منها يعبّر عن مصالح وسياسات أكثر من تعبيره عن حقائق ومعلومات.
والاقتصاد بالنسبة للشباب الأمريكي، وللمهاجرين إلى «الحلم الأمريكي» من جهات الدنيا الأربع، لم يعد مجرد نسبة نمو تعلنها أجهزة الإحصاء الأمريكية كل فصل، ولا حتى رقم العجز في الموازنة أو في الميزان التجاري، كما لم يعّد الاقتصاد مجرد خفض في سعر الفائدة أو سعر النفط أو في زيادة الدعم لهذا القطاع المتعثر أو ذاك، أو في زيادة عدد البيوت التي أرغم شاغلوها على إخلائها لعجزهم عن الإيفاء بأثمانها، أو كذلك في نسب البطالة المتصاعدة حيث لا هجرة من بلد يهاجر إليه الناس ولا يهاجروا منه.
إن الاقتصاد اليوم في الولايات المتحدة هو سياسة أكثر مما كان في أي وقت مضى، بل هو ثمرة خيارات كبرى في الداخل والخارج، حيث يزداد التململ في الداخل من تصاعد سطوة الاحتكار الربوي والفساد المؤسسي، وتنامي الفجوة بين أثرياء يتناقص عددهم كلما ازدادت ثرواتهم، وفقراء يتزايدون خصوصاً مع انضمام شرائح واسعة من الطبقات الوسطى إليهم وفي بلد طالما اعتّز أنه «قلعة» الطبقة الوسطى وحامل رسالتها إلى عالم يزداد الاستقطاب الطبقي فيه.
أما في الخارج، فهل يمكن فصل الأزمة الاقتصادية الاجتماعية ذات البعد البنيوي في النظام الأمريكي عن الحروب، بل المغامرات، التي اندفع إليه جورج بوش الأب والابن، ومعهما ثلّة من المستشارين المحافظين الجدد الذين اعتقدوا، بحكم صلتهم ببعض الكنائس المتصهينة، أنهم بمثابة «الروح القدس» للأب والابن معاً. بل هل يمكن فصل هذه الأزمة عن ذلك الإنفاق العسكري الضخم الذي يجعل الولايات المتحدة تنفق على جيوشها وحروبها ما يوازي مجموع ميزانيات الدفاع للدول العشرة التي تليها في حجم إنفاقها العسكري، أو ما يعادل 8 أضعاف الإنفاق العسكري في العالم.
والرئيس أوباما الذي شّق طريقه إلى البيت الأبيض من مقاعد مجلس الشيوخ حين كان يصّوت، وأحياناً وحيداً، ضد الحرب على العراق، من أكثر الذين يدركون حساسية العديد من المواطنين الأمريكيين لتوّرط بلادهم في حروب مكلفة بشرياً ومادياً، سياسياً وأخلاقياً، وبالتالي بات أكثر ساستهم تحاشياً لجرّ بلاده إلى مغامرات عسكرية جديدة، وأكثر حرصاً على بناء علاقات تبادلية بين واشنطن وموسكو وبكين، يعتقد الكثيرون إن ولاية أوباما ستسعى إلى تطويرها وحل العديد من الأزمات في ظلها.
والاقتصاد في أمريكا اليوم هو علاقات بالخارج لا سيّما بالصين وروسيا ودول البريكس الأخرى وغيرها، وهي علاقات يتداخل فيها الاقتصادي بالسياسي والعكس صحيح، ذلك أنه كما يقال، الاقتصاد هو السياسة بلغة الأرقام، وما بين واشنطن وموسكو وبكين ما يمكن تسميته «بالتبعية المتبادلة» حيث كل طرف يحسب حساب الآخر فلا يذهب بعيداً عنه إلى حّد الافتراق ولا يقترب كثيراً منه إلى حّد الذوبان.
والاقتصاد في أمريكا اليوم هو خيار اجتماعي بين «دولة كبيرة» لها كلمتها في الشأن الاقتصادي والاجتماعي، وبين حيتان مالية فالتة من أي قيد أو شرط. وبين دولة تعنى بالرعاية الصحية والاجتماعية والتربوية وبين «ليبرالية متوحشة» تترك صحة الناس وتعليمهم فريسة تغّولات بعض أهل القطاع الخاص ونهمهم.
الاقتصاد الأمريكي اليوم هو انعكاس لمسار العلاقات بين المكونات العرقية والإثنية والطبقية، المتعددة للمجتمع الأمريكي، والتي حذّر صموئيل هانتغون من تحولها إلى صراع حاد بديل عن «صراع الحضارات» الذي تحدّث عنه قبل أكثر من عقدين.
فقوانين الهجرة لها انعكاساتها على الواقع الاقتصادي، وحال «الغيتوات» العرقية أو الإثنية له انعكاساته على الأمن والاستقرار، فالاقتصاد أيضاً، وحقوق المرأة الاجتماعية هي استكمال لحقوقها الاقتصادية ومطامح الشباب المتصلة بفرص العمل وبتجديد المجتمع والدولة هي بالتأكيد اقتصاد...
إن تظهير هذا التداخل بين الاقتصاد والاجتماع والسياسة والبيئة والإنفاق العسكري والقيم الأخلاقية وطموحات الشباب هو السمة الأبرز في أي تقييم لمسار العملية السياسية والانتخابية في الدولة الأكبر في العالم، خصوصاً أنه مع انحسار الفائض الاقتصادي والنقدي الأمريكي انحسر الحلم الأمريكي ولم يعد قادراً على تغطية كل العيوب والمثالب في المجتمع والدولة في أمريكا..
فالولايات المتحدة الأمريكية تعيش مرحلة تحول تدريجي عميق ينبغي مواكبته، والسعي لاستثماره لصالح قضايا الحرية والكرامة والاستقلال في بلادنا والعالم، وهذا التحول الذي عبّر عن نفسه بالأمس في إدارة الناخب الأمريكي ظهره للملياردير الجمهوري ميت رومني في منافسته لأوباما، ليست بالضرورة ثقة كاملة بالرئيس العتيد الذي خيّب الآمال في ولايته الأولى، بقدر ما هو إعلان عن بداية تشّكل أمريكا جديدة، يطغى في مجتمعها، وبين شبابها صوت المساواة والعدالة على صوت التمييز والظلم، صوت الأخوة والشراكة على صوت التعصب والكراهية وهو طغيان سيكون له انعكاسات حتماً داخل أمريكا وخارجها.
أما بالنسبة للقضايا العربية لاسيّما القضية الفلسطينية، ينبغي ألاّ نتوقع تحولاً لصالحنا بقدر ما يجب أن نتوقع استمراراً لنهج قائم في المدى المنظور. وتفسير التشاؤم هنا ليس مّرده فقط إلى ذلك المنطق الشائع منذ عقود في وطننا العربي بألا فرق بين «الحمار» الديمقراطي و»الفيل» الجمهوري لا سيّما في ظل النفوذ الكبير للوبي الصهيوني على المال والإعلام، بل بشكل خاص لتقاعس رسمي عربي وإسلامي، يصل إلى حدود التواطؤ، في بذل أي جهد للتواصل مع القوى الشعبية الأمريكية، المهمشة تاريخياً، أو في ممارسة أي ضغط جاد على الحكومات الأمريكية المتعاقبة لا سيّما على المستوى الاقتصادي، نفطاً وقروضاً وسندات خزينة واستثمارات.
«إنه الاقتصاد يا غبي».. فهل يستخدم العرب سلاحهم الاقتصادي لكي يتكامل مع وعي نخبوي وشبابي متنام داخل المجتمع الأمريكي للطبيعة العنصرية للوبي الصهيوني، ومع تململ قوى عسكرية وسياسية وإعلامية باتت ترى في سياسة تل أبيب «عبئاً على المصالح الاستراتيجية لواشنطن»، وهو ما قاله بالحرف قبل أشهر رئيس هيئة أركان القوات المشتركة في جلسة استماع أمام الكونغرس.