على صفحتها الأولى، وفيما يبدو أنها اعتبرته سبقاً صحافياً، نشرت صحيفة «يديعوت إحرونوت» الإسرائيلية صورة وكلمات الجندي الإسرائيلي الذي أطلق النار على خليل الوزير «أبوجهاد» كي يغتاله في العام 1988، ناقلة عنه قوله «نعم .. نعم ... أنا الذي أطلقت النار على «أبوجهاد» بدون أي تردد، كان «أبوجهاد» مخيفاً لقد تسبب بقتل مدنيين».
يتوقف أي متابع للقضية الفلسطينية عند مطالعته مثل ذلك الخبر عند مسألتين، الأولى، هي تلك الثقة المطلقة المستمدة من اطمئنان كامل بنجاح تلك العملية الممزوجة بنشوة الانتصار المشوبة برائحة الرغبة في الانتقام من شخصية مثل «أبوجهاد»، كما وردت في الوصف الذي نقلته المجلة على لسان ناحوم ليف وهو الذي ترأس فرقة الاغتيال في تونس، والتي شارك فيها، كما جاء في خبر الصحيفة 26 شخصاً، قبل أن يلتقوا بمجموعة أخرى من الموساد، كانت قد سبقتهم إلى تونس، كي تتولى عمليات الرصد والمتابعة، التي مهدت لعملية استقبال فرقة الكوماندوز الإسرائيلية التي دخلت من الشواطئ التونسية. مثل هذا المزيج من المشاعر لم يكن ليتحقق في عملية نفذت في ساحة تبعد آلاف الكيلومترات عن مركز «الموساد»، إلا بتضافر عاملين أساسيين، أولهما كفاءة «الموساد»، من الناحيتين التخطيطية والتنفيذية، والثانية قدرته على الاختراق، وعلى مستو عال في الدولة، وهي تونس، التي نفذت العملية فوق أراضيها، هذا إن لم يتم ذلك بعد أخذ موافقتها.
تضافر مثل هذين العاملين مصدره، في ذهن القارئ، مشهد جريمة أخرى مشابهة ارتكبها الموساد الإسرائيلي قبل حوالى عشرين سنة من عملية اغتيال «أبوجهاد»، والتي ذهب ضحيتها ثلاثة من القادة الفلسطينيين، هم كمال عدوان، وكمال ناصر، وأبو يوسف النجار، من قادة منظمة «أيلول الأسود» الفلسطينية. فهناك تشابه إلى حد التطابق في أسلوب تنفيذ العمليتين، فكما في تونس، ترجل الكوماندوز الإسرائيلي الموكل لهم عملية اغتيال القادة الثلاثة من باخرة رست قبالة الشواطئ اللبنانية، وكانت هناك فرقة أخرى سبقت رجال الكوماندوز، وقامت بعليات المسح الضرورية، واستعانت بعناصر محلية من أجل تأمين العمليات اللوجستية. ولم يخل الأمر، كما كشفت بعض الوثائق الرسمية الفلسطينية، عن تعاون مع بعض العناصر المنفذة في الدولة اللبنانية. فقد كان، كما تقول تلك المصادر، «رصد الأهداف ومتابعة الإجراءات الأمنية التي تتيح للكوماندوز القيام بعمليته في ظروف المعرفة التامة بكل التفاصيل الميدانية تولاها مراقبون لبنانيون في سيارات مموهة بعضها تاكسي، وبعضها الآخر عسكري تابع للفرقة 16 التي كانت أداة قمع بيد السلطة اللبنانية».
إذ يصعب القبول بفكرة مخاطرة الموساد بإرسال مجموعة يزيد عدد أفرادها على العشرين شخصاً، في عملية اغتيال «أبوجهاد»، والتجول دون خوف من مفاجأة غير متوقعة، على النحو الذي ورد في الرواية، في أراض غريبة عليها، من ناحية التضاريس الجغرافية، وغير مألوفة بالنسبة لأفرادها من حيث التركيبة السكانية، وشبه حديثة عليهم على مستوى المعالم المعمارية، وتحت سلطة دولة يفترض أن تكون في حالة حرب مع إسرائيل، ما لم تكن هذه الأخيرة قد أمنت الغطاء البشري والأمني اللذين تحتاجهما عملية بذلك الحجم التنظيمي، والثقل السياسي، لتفادي أي خطأ يمكن أن يقود إلى إجهاض عملية اغتيال شخصية في مستوى «أبوجهاد»، ينجم عنه إحراج سياسي كانت إسرائيل في أمس الحاجة لتفاديه في تلك المرحلة.
ليس هناك من يشكك في كفاءة الموساد، لكن بالمقابل من غير المنطقي أن يوضع الموساد في خانة جهاز الاستخبارات الذي لا يخطئ أبداً، فمن عايش السلوك الإسرائيلي أثناء، وبعد غزو لبنان في يونيو 1982، يستطيع أن يكتشف، دونما جهد يذكر، أن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية ليست بذلك المستوى العالي من الكفاءة على النحو الذي رسمته لها الأجهزة الرسمية العربية في ذهن المواطن العربي. وأكبر دليل على ذلك أن قوات الغزو لم تتمكن، رغم استماتتها، في معرفة الأماكن التي كان يستخدمها قادة المقاومة الفلسطينية أثناء مواجهة الغزو، بمن فيهم «أبوعمار»، أو حتى «أبوجهاد»، عندما كانت تقوم بعملية مسح كاملة، بعد الخروج الفلسطيني من لبنان في أغسطس 1982، في سعيها لجمع أكبر كمية من المعلومات عن منظمة التحرير الفلسطينية، عن طريق الحصول على أية وثائق يحتمل أن يكون أي من القادة الفلسطينيين قد تركها وراءه قبل المغادرة. لا يعني ذلك الاستخفاف بالموساد وقدراته، الذي نفذ عمليات ناجحة، لكن بالمقابل، لم يسلم الموساد من إخفاقات واضحة خلال العشرين سنة التي أعقبت العملية التي نفذها الفلسطينيون أثناء دورة الألعاب الأولمبية في ميونيخ في مطلع السبعينات من القرن الماضي، والتي (الإخفاقات) أثارت الكثير من المشاكل السياسية بين إسرائيل والدول التي نفذت فيها تلك العمليات الفاشلة. من هنا، ينبغي التأكيد على أن كفاءة الموساد الحقيقية هي قدرته على اختراق النظام الأمني العربي، وهو في عملية اغتيال «أبوجهاد» التونسي على وجه التحديد، وزرع عناصره المحلية في قلب المؤسسات المدنية، كي يتسنى له تنفيذ عملية معقدة، وبالنجاح المطلوب، أكثر منها أي شيء آخر.
فسجل الموساد حافل بالإخفاقات أيضاً، التي صاحبت بعض عمليات استراتيجية، فلم يستطع الموساد أن يحمي واحداً من أهم عناصره وهو باروخ كوهين الذي كان يحمل اسم حانان بيشاي، وتمت تصفيته في مدريد في السبعينات من القرن الماضي. وفي يوليو 1973، توهم الموساد أنه اغتال علي حسن سلامة، أحد المشاركين في التخطيط لعملية ميونيخ، لكن الضحية، كان نادل بريء من شمال أفريقيا هو أحمد بوشيقي تم بالاشتباه به على أنه علي حسن سلامة. وتثير مجموعة الأخطاء التي رافقت عملية اغتيال القائد الفلسطيني المبحوح الكثير من علامات الشك في كفاءة الموساد.
المسألة الثانية، وهي الأهم وتتعلق، بما قاله الجندي الإسرائيلي من كون «أبو جهاد مخيفاً لقد تسبب بقتل مدنيين». إن كان المقصود هنا بأنه كان يرعب المؤسسة الأمنية الصهيونية منه، فقد صدق ذلك الجندي، سواء قصد ذلك أم لم يقصد، فقد عرف عن «أبوجهاد»، أكثر من سواه من القادة الفلسطينيين، تركيزه، وهو في المنفى على الداخل الفلسطيني، وكانت مجموعة «القطاع الغربي»، و»الكتيبة الطلابية»، رأس حرب العمل الفدائي الذي يديره أبو جهاد داخل الأراضي المحتلة. وقد تقلد أبو جهاد هذه المسؤولية، إثر اغتيال الموساد للقادة الفلسطينيين الثلاثة كمال عدوان، وكمال ناصر وأبو يوسف النجار في العام 1973، فيما عرف بعلمية «شارع الفردان».
لقد عرف عن «أبوجهاد»، رحمه الله، حرصه الشديد على تفادي القطاعات المدنية عند تحديد أهداف العمليات الفدائية داخل الأراضي المحتلة، وبحثه عن ذات العلاقة بالمؤسسات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، وكان ذلك التوجه من أهم أسباب وضع إسرائيل «أبوجهاد» على رأس قائمة القادة المطلوبة رؤوسهم، بعد الخروج الفلسطيني من لبنان.
رحم الله «أبو جهاد» فقد كان قائداً فذاً وإنساناً رائعاً، وفوق هذا وذاك مناضلاً مضحياً أراد أن يكون أحد محرري القدس أو من بين شهدائها فكان له ما أراد. ونأمل أن تتغير الصورة التعظيمية المرسومة في ذهن المواطن العربي عن جهاز الموساد الإسرائيلي