سؤال يطرح على كل من يدعي الانتماء إلى اليسار وهو: ماذا يعني لك الانتماء إلى اليسار؟ قبل عقدين من الزمان لم يكن مثل هذا السؤال قابلاً للطرح في أوساط اليسار التقليدي، لأن المسألة محسومة سلفاً في منظوره، ولكن طرحه اليوم بات أمراً مشروعاً في ظل التحولات والالتباسات المستجدة، خصوصاً في ظل التحالفات الجديدة بين بعض اليسار والقوى الدينية - المعارضة بما يطرح إشكالات غير مسبوقة.. فالانتماء إلى اليسار كان يعني باختصار الإيمان بالاشتراكية العلمية كمنظور ورؤية لتحليل حركة المجتمع والتاريخ الإنساني، والإيمان بحتمية التقدم على طريق بناء العدالة الاجتماعية ورفض منطق اقتصاد السوق الذي يقوم على أساس تحييد دور الدولة في الاقتصاد وترك السوق تعمل بآليات العرض والطلب وتتحكم في كل شيء، وتعني فكرياً الوقوف ضد قوى التخلف الفكري الطائفي ومع قوى التنوير والتقدم والعقلانية كما إن للانتماء لليسار بعداً اقتصادياً يتحدد بالعلاقة مع وسائل الإنتاج (عدم ملكيتها)، وبعداً أيديولوجياً يتحدد بالنظرة المادية الموسومة بالعلمانية في مواجهة النظرة الميتافيزيقية. وبالارتباط مع هذين البعدين، ومع البعد الأيديولوجي بصفة خاصة، ظهر مرادف آخر لمصطلح يسار وهو مصطلح التقدمي في مواجهة مصطلح الرجعي، فأصبحت التقدمية سمة لليسار والرجعية سمة لليمين، فصار التقدمي بهذا المعنى يسارياً حتى ولو لم يكن من صفوف الكادحين، وصار الرجعي بهذا المعنى أيضاً يمينياً، حتى ولو كان من الكادحين، وبالرغم من المتغيرات الكاسحة في الواقع وفي المفاهيم، فإن الانتماء إلى اليسار يظل مرتبطاً بالمفاهيم المتعلقة بالحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية والاشتراكية والارتباط بالقيم الإنسانية التي حققتها البشرية بفضل النضال ضد الاستغلال القومي والطبقي والجندري، وضد التخلف واستلاب الوعي. تلك خلاصة غير دقيقة، ولكنها إجمالية لمعنى الانتماء إلى اليسار في عمومه، ولكننا عندما نطرح نفس السؤال اليوم على أي من يساريينا سوف لن تعثر إلا على القليل القليل من تلك المضامين اليسارية في ظل الابتعاد البين عن الجذور من ناحية، وفي ظل وجود قطاعات من اليساريين الجدد من ذوي الخلفيات البعيدة عن التكوين اليساري الصميم، ممن يعانون من حالة اختلاط وازدواجية في القيم والمفاهيم، مما أمكن بناء التحالفات والقناعات الجديدة التي تسجل نوعاً من النكوص عن تلك المبادئ والقيم التي أصبحت مجرد ظلال باهتة ليسارية مذبذبة عديمة الهوية، وتقدمت في المقابل أولويات غريبة من نوع: - التحالف مع القوى المصنفة في الأصل “رجعية” في قاموس اليسار، ويبلغ هذا التحالف في بعض الأحيان درجة الاشتباك الطائفي، ويبدو هذا الخيار أفقاً جديداً لبعض يساريينا، وهو لا يقوم على أساس القراءة التقليدية لنظرية العوالم الثلاثة في ترجمتها المحلية، وإنما ينهض على رغبة محمومة في الوصول إلى السلطة بأي ثمن وبأي طريق، كرد فعل على ما تعرض له اليسار في السابق من تهميش متعمد واستبعاد من مصادر القرار.. - التحالف؛ التنسيق السياسي والإعلامي المباشر (إلى درجة التبعية في بعض الأحيان) مع القوى المصنفة تقليدياً في قاموس اليسار بأنها قوى “امبريالية” في حلف غير مقدس بالاستفادة من الإمكانيات التي أتاحتها خلال العقد الماضي الإدارات الغربية عبر المعاهد والمنظمات المختصة والتي تسهم بشكل واضح في تمويل وتدريب جزء من قوى المجتمع المدني التابعة لسيطرة المعارضة بكافة أصنافها.. حيث بدا التنسيق واضحاً وعلنياً ودون أي حرج! - تراجع الأولويات الاجتماعية - الاقتصادية - الفكرية المركزية للفكر اليساري في البرامج والفعاليات والبيانات والتشبث بنوع من الأبنية الفكرية والسياسية التي تتماهى مع الخطاب الديني الطائفي في لغته وتأويلاته وشعاراته في ازدواجية مكشوفة بين اللغة والممارسة قاسية وواضحة ومباشرة مع الحلفاء الجدد. - المسايرة المشوبة بالتواطؤ للمواقف والرؤى المعادية للحريات الخاصة عامة ولحرية المرأة خاصة في ملف قانون الأسرة المحجوز جزئياً لحساب المؤسسة الدينية تجنباً لأية مواجهة فكرية وسياسية وإعلامية مع الحلفاء الجدد. - الصمت المشبوه وغير المبرر حيال ما يطرحه التحدي الإيراني (السياسي - الطائفي) الذي يتمظهر في بعض الأحيان في شكل تهديد مباشر للهوية والاستقلال الوطني، والامتناع عن إبداء أي حزم حقيقي تجاه هذا التحدي في إطار تكتيكات مواجهة السلطة المحلية. يبدو يسارنا في هذا السياق الذي ينشغل فيه بتحالفاته مع رموز الحركة الدينية في ترجمتها الأكثر طائفية (بغض النظر عن التحسينات اللفظية) مبتعداً عن التجربة التقدمية في الفكر والسياسة والتي كانت منتجاً حداثياً، وصارت الآن تحلق خارج فضائها الكوني الرّحب بعلة “انسداد الآفاق”. وبدلاً من أن يتجه هذا اليسار في دعم مسار التجربة الديمقراطية التعددية الوليدة، والتي تقع داخل الحد الأدنى الحداثي المشترك الذي أنتج توافقاً وطنياً وتجربة تعدّدية قابلة للتطوّر خارج الانفعالات، فقد فضل النكوص والانصياع إلى الإغواءات والإغراءات المتصلة بالرغبة العارمة في الوصول إلى السلطة (وهي رغبة - وإن كانت مشروعة من وجهة النظر الديمقراطية - فهي تبدو خارج سياقها التاريخي والاجتماعي وهذه إحدى ثمار السير وراء قوى غير قادرة على قراءة حركة التاريخ). .. وللحديث صلة