من الواضح أن الوصفة العراقية التي سعت الإدارة الأمريكية إلى تسويقها علينا (كنموذج للديمقراطية الطائفية الناشئة القائمة على المحاصصة الطائفية والتبعية للخارج)، وبقدر ما نأسى للانزلاق الطائفي الذي يتجه بالعراق الشقيق إلى الانقسام والاحتراب الطائفي، بقدر ما يجب أن نستخلص الدرس من هذه التجربة الفاشلة التي تنهض على الأيديولوجيا الطائفية التي تنهض بدورها على الأوهام التي تتخذ بعدا يبلغ من العمق والشمولية بحيث تصبح الدافع وراء المواقف والقرارات التي تحدد العلاقات الاجتماعية، وعندما تكون الأيديولوجيا مبنية على الأوهام، يضيق مجال العقل ويضعف تأثيره، وهذا ما يلحظه بوضوح كل متتبع للفكر الطائفي عندنا – هذا إذا ما صحت تسميته بالفكر أصلاً، فهو يبني أطروحاته ومواقفه على أساس الأوهام، وذلك لقصر نظره وسطحية تشخيصه لأمور السياسية والاجتماعية معاً. ومن هذه الأوهام التي يستند إليها الفكر الطائفي كما تجلى لنا خلال السنوات القليلة الماضية من خلال أطروحاته وبياناته المنشورة للملأ، أن تحقيق المساواة بين الطوائف في إطار الدولة هو الطريق الوحيد إلى بناء الديمقراطية، في حين أن اعتماد منطق التوزيع الطائفي في كافة جوانب الحياة لا يؤدي إلى الديمقراطية، لأن الديمقراطية مساواة بين أفراد، في حين أن الطوائف كمؤسسات باعتبارها كياناً سياسياً واجتماعياً وحقوقياً تعتبر تعدياً على مجال نشاط الدولة ومسؤولياتها وعلى مجال الاختيار الفردي أيضاً.
ومن تلك الأوهام أيضاً القول بإمكانية تحقيق الديمقراطية في مجتمع تتساوى فيه الطوائف، لأن الديمقراطية الحقيقية لا تتحقق إلا في مجتمع يتساوى أفراده أمام القانون، والشرط الضروري لهذه المساواة هو إلغاء كل الطائفية في المجتمع، بحيث لا يمكن في المجتمع الديمقراطي أن ينظر إلى الفرد كعضو في الطائفة، بل يكون انتماؤه للدولة «الوطن» مباشرة بدون وسيط، وتكون فرديته من الناحية القانونية والاجتماعية ناقصة وانتماؤه الوطني ناقصاً إذا ما نظر إليه على أساس طائفي، إذا كان الانتماء الطائفي هو المحدد لوجوده، لأنه وفي هذه الحالة لا يكون هناك وطن بل فئات اجتماعية.
إن التنظيم الطائفي يستند إلى المجال الديني الجماعي، حتى يجعل كل من يخالف الأفكار والعادات والتقاليد السائدة وآلية التنظيم الطائفي سياسياً واجتماعياً خارجاً أو كافراً في نظر القيمين على صيانة شؤون الطائفية الذين غالباً ما تكون لديهم مصالح وامتيازات يبذلون الجهد للحفاظ عليها، حيث يتم ترهيب الفرد الذي يختار طريقه عن فكر ووعي في المجالين السياسي والاجتماعي، من خلال اللجوء إلى المعطى الديني الصرف، مثل الاتهام بالخروج عن منطق الطائفة، وتاريخ مجتمعنا العربي مليء بالشواهد على المعارضة السياسية والاجتماعية التي اضطرت إلى تبرير نفسها بحجج دينية أو طائفية كي تحمي نفسها من تهمة الخروج.
إن النظام المدني الديمقراطي وحده الذي يفسح المجال أمام صراع الأفكار والاتجاهات السياسية بشكل سلمي ونامٍ ومتطورٍ يقوم على الحوار، في حين أن الطائفية تضعها في إطار صلب فتقمعها وتمنع نموها وتطورها. وقد كانت أحداث لبنان الأخيرة، بمثابة انفجار لنظام طائفي منع التطور الاجتماعي والسياسي وقمع الأفكار الناشطة في الاتجاه المدني والديمقراطي، ولم يستطع الصمود عندما بلغت الاتجاهات والأفكار الطائفية مداها فكان الانهيار الذي شهدناه عندما تحولت الصراعات الطائفية إلى مأساة نتيجة التحارب الطائفي الذي يأكل الأخضر واليابس، وما نشهده في العراق الشقيق شكل واحد من أشكال هذا الانزلاق الذي يحظى برعاية محمومة من الإدارة الأمريكية والنظام الإيراني.