لماذا يمتلك البعض مثل هذه القدرة العجيبة على ممارسة فن «تدوير» الكذب إلى ما لا نهاية، ليصير حقيقة ساطعة؟
من أين يمتلكون هذه الطاقة العجيبة لجعل شطر المائة عشرين، وضعف الخمسة سبعين، ومجموع واحد وواحد ثلاثة وثلاثين، وضارب واحد في واحد يساوي صفراً؟ من أين لنا مثل هذه العبقرية الفذة التي لا مثيل لها في العالم وفي الحضارات القديمة والجديدة؟
إذا كنا قد تعودنا على أن الكذب هو جزء لا يتجزأ من حياة السياسيين، لأن فن السياسة يكاد يكون ابن عم فن الكذب، فإن ما يدعو للدهشة أن تنتقل العدوى إلى المثقفين الذين نظن بعضهم غير قادر على إجراء عمليات الجمع والضرب والقسمة وفق المنطق الرياضي البسيط؟ لماذا نظل نتلاعب بالكلمات والبيانات الثقافية المثقفة المتعالية المتقلبة والمنمقة، نداهن ونوارب و»نتكتك» في لعبة التوصيف الثقافي الجدي والهزلي على حد سواء.
جوهر هذه الإشكالية يرتبط بعلاقة المثقف بالسلطة (أي سلطة) والتي لا تكاد تخرج عن احتواء أو استعداء، يتحول فيهما المثقف بموجب الأولى إلى حارس مرمى (مع مراعاة فروق التشبيه)، ويتحول في الثانية إلى اعتلاء منصة المهمشين أو المنبوذين والمقاطعين في انتظار أن يلتحق بصفوف المغضوب عليهم والضالين؟ ألا توجد مساحة أخرى ما بين الجنة والنار؟ مساحة بين الاحتواء والعداء تجعل من المثقف مرشداً ومنوراً فاعلاً وضميراً حياً لا يخشى في الحق لومة لائم؟
لقد بينت تجارب التاريخ الإنساني القديم والحديث أن المثقف لن يكون في موقع الهادي المنير المستنير، إلا إذا كان «مستقلاً» ليس بمعنى العزلة أو الجلوس على الربوة، الاستقلالية تعني الاستقلال عن الهوى والطمع المحسوب «بالمِلِّي»، والاستقلال يعنى الانحياز للحق لأنه حق في ذاته كما في قول ابن الهيثم، والاستقلال يعنى القدرة على ممارسة النقد الذاتي أولاً، والنقد في موقع النقد والثناء في موقع الثناء، وأن يكون المثقف هادماً لما يجب هدمه، وبناء في موقع البناء.
المثقف لا يكون مؤثراً إلا إذا كان مستقلاً (عن السلطة والمعارضة معاً وعن الطمع والهوى)، ولن يكون مستقلاً إلا إذا كان مستور الحال مقضي الحاجة، لا تضطره الفاقة والعوز إلى إراقة ماء الوجه والتكفف الفاضح وبيع النفس والعقل والروح.. لذلك تنبهت السلطة المستنيرة على مدار التاريخ إلى ذلك فأعطت للمثقف (إذا كانت له قيمة معرفية في مدارج الحكمة عالية المكانة) كل به يكون مستقلاً وما يضمن استقلاله -تماماً مثل القاضي-، لتستثمر فيه العلم والحكمة بدلاً من أن يكون مجرد مزين لها، لأنها تعلم علم اليقين أن المثقف إذا دار في فلكها وتمتع بنعيمها وجاهها، أصبح مسلوب إرادة العقل، تروضه «الأشياء» وتراوده على نفسه الأمارة بالتسوّل، خصوصا عندما تداويه بالتي كانت هي الداء، فتسطر له خطوط طول العقل، وخطوط عرض القلم وألوان بنات الأفكار، وسواء أكان خطابه مقنعاً أو مقنّعاً، فغايته الأولى والأخيرة إرضاؤها لا تنويرها وبالتالي إنارتها، وهو ولأنه عندما يعمل على إرضائها، فان ذلك يترجم إلى منافع وفوائد منثورة، قد تصرّف أوراقاً نقدية أو صكوكاً بنكية، وقد تصرّف في شكل مناصب أو كراسي، فلكل مجتهد نصيب، ولكل عرض طلب وفق قانون سوق الأخلاق المنقولة، وفي هذه السوق نرى لزاماً التوقف «دقيقة صمت» حداداً وترحماً على قيم الحقيقة والحرية والعدالة والموضوعية والصدق.
فإذا عاش المثقف في الركاب، صار بوقاً، محسوباً، تابعاً، يلحقه ما يلحق المتبوع من انتكاسات ومن عداوات طالما أنه يتطابق معه ويتماهى معه وأعرب عن استعداده ليكون الوجه الثاني للعملة، وسواء طال زواج المتعة بينهما أو قصر فلا بدّ أن ينتهي بطلاق التراضي إذا افترضنا أننا إزاء علاقة لا تلتهم أبناءها، وعندما يفقد المثقف مصداقيته لا تعود هنالك حاجة له ولخدماته لأنه يصبح اسماً عارياً عن كل حقيقة، وكل أوراقه مكشوفة، ولأنه خبر كواليس السياسة ودهاليز صنع القرار لن يرضى في كل الأحوال بشرف المحاولة، بل سيظل يناور ويساوم، علّه يظفر بما يؤثث به عزلته، ويؤمن شيخوخته المبكرة، لأن أقلام الحراسة لا تحرس سوى مصالحها قبل أن تحرس مصالح الحقيقة، وتحمي قلاعها قبل أن تحمي قلاع المصلحة العامة، وتدافع عن شرعيتها قبل أن تدافع عن كل شرعية، فهي المنطلق والمنتهى والباث والمتقبل، والسائل والمسؤول، والفاعل والمفعول، ولله مرجع الأمور.