هناك مجموعة من العوامل التنظيمية والسياسية التي ساعدت كوريا الجنوبية على تحقيق هذا الإنجاز الاقتصادي المرموق، الذي تم كما يراه الباحث مصطفى القصباوي، على أربع مراحل تمتد من الخمسينات حتى الثمانينات من القرن الماضي، وتبدأ بمرحلة «تشجيع الإنتاج الوطني وحمايته من المنافسة الأجنبية، وفرض قيود جمركية على الواردات»، قبل أن تدخل مرحلة «تقوية الصادرات»، كي تدخل المرحلة الثالثة وهي «بناء الصناعات الثقيلة» وتنتهي بتلك التي ركزت على «تطوير الصناعات العالية التكنولوجيا». لكن القصباوي يلفت إلى عنصر مهم ساهم إلى حد بعيد في وصول كوريا إلى ما وصلت إليه، وهو كون «العامل البشري إحدى دعائم الانطلاقة الاقتصادية بكوريا الجنوبية؛ إذ إن الصناعة استفادت خلال الستينات والسبعينات من تشغيل اليد العاملة بأجور زهيدة ولمدة عمل أسبوعية طويلة «بلغت» 60 ساعة في الأسبوع».
لكن مثل تلك النجاحات لا تنفي مواجهة الاقتصاد الكوري، خصوصاً في المرحلة الراهنة من تطوره، مجموعة من المشكلات والتحديات، تعترف بها المصادر الكورية ذاتها، حين تحذر من أن «هذه الإنجازات الاقتصادية قد واجهت في السنوات القليلة الماضية بعضاً من المصاعب المتمثلة في التكتلات الاقتصادية والمؤسسات المالية الكبرى. وقد أثارت هذه المصاعب شكوك المستثمرين الأجانب، وهو الأمر الذي أدى في النهاية إلى حدوث أزمة حادة في السيولة وذلك في أواخر عام 1997، أدت هذه الأزمة النقدية إلى مشكلات خطيرة منها البطالة».
وهناك بعض المؤشرات السلبية المستقبلية التي يحذر منها تقرير اقتصادي صادر عن مكتب الموازنة بالجمعية الوطنية الكورية، وجاء فيها «احتمال تراجع نسبة النمو إذا تفاقمت أزمة منطقة اليورو». ويأمل الكوريون أن «الأزمة النقدية في أوروبا لن تؤدي لتدهور آخر للاقتصاد العالمي»، ذلك أن «ظهور أزمة أوروبية جديدة من بين عوامل أخرى يعد أكبر خطر على الاقتصاد الكوري الجنوبي، خشية من أن الصادرات لن تتحسن بصورة كبيرة بسبب الأزمة المستمرة في أوروبا وتباطؤ الاقتصاد في الصين والولايات المتحدة الأمريكية».
وهناك نزعة تشاؤمية تسيطر على توقعات الخبراء الاقتصاديين الكوريين من أمثال لي جاي جون في معهد التنمية الكوري، الذي أشار إلى أنه «في حال وجود حالة قاتمة من الغموض الاقتصادي في الداخل والخارج في العام المقبل، فإن النمو المقدر لكوريا قد يبقى في حدود 2% في عام 2013». وهذا ما دفع البنك المركزي إلى القول إن «الاقتصاد الكوري قد يدخل مرحلة من اتجاه النمو المنخفض كما خفض البنك المركزي توقعاته للنمو في 2012 إلى 2.4% فقط من تقديراته السابقة التي تبلغ 3%».
وتعزو تلك المصادر توقعاتها بهذه النسبة المنخفضة للنمو الاقتصادي إلى «تراجع الصادرات بشكل أساسي، إذ يتوقع أن تتقلص الصادرات بنسبة 0.9% هذا العام بينما تنخفض الواردات بنسبة 0.6%».
مثل هذه التحذيرات تدخل في نطاق تراجع النمو دون أن تصل إلى درجة الخوف من الكساد أو الارتفاع غير المقبول في معدلات التضخم، وهذا ما يجعل الرئيس لي ميونغ باك متفائلاً وساعياً إلى تشجيع نزعات البحث عن حلول قابلة للتحقيق، فنجده ينوه في كلمته الافتتاحية لأسبوع كوريا للتنمية الإقليمية الذي أقيم في مركز المؤتمرات والمعارض في مدينة تشانغ وون في سبتمبر 2012 إلى أن «الاقتصاد الكوري دخل إلى عصر النمو المنخفض غير أنه يعتقد بأن الاقتصاد الكوري لن يبقى في النمو المنخفض لفترة طويلة، «محذراً من» أن المخاوف المبالغ فيها تسبب انكماش الاقتصاد المحلي، مما يؤدي إلى تراجع الاستثمار والاستهلاك، «مؤكداً على أنه» يثق في أن الاقتصاد الكوري الجنوبي يتعافى ويشهد زيادة النمو وتوسيع التجارة، وإلى أن هناك شركات تستثمر بشكل جريء وتسعى لرعاية الموارد البشرية في ظل الأوضاع الصعبة، ومن شأنها أن تتمكن من تحقيق قفزة كبيرة لها عندما يشهد الاقتصاد الكوري الجنوبي انتعاشاً، «منهيا كلمته» أن الاقتصاد الكوري ازداد متانة عبر الأزمة المالية التي انطلقت في الولايات المتحدة عام 2008، «بفضل» سعي الحكومة الكورية الجنوبية للاستفادة من الأزمة الحالية كفرصة من أجل تمتين الاقتصاد المحلي بالتزامن مع الحفاظ على السلامة المالية».
ويبدو أن هناك توجهات مركزية رسمية متكاملة لمحاربة نزعات التشاؤم دون القفز على المشكلات والتحديات، فمن جانبه وجدنا وزير المالية والتخطيط الكوري الجنوبي بارك جيه وان يعترف في كلمته التي ألقاها في المقر الحكومي في الدورة الـ27 لاجتماع إدارة التدابير الطارئة أن «تقييم العالم للوضع الاقتصادي الكوري بصورة إيجابية لا يعني أن اقتصادنا خالٍ من المشكلات»، لكنه عاد كي يؤكد على «قدرة الدولة على حل المشكلات، وأن تحقق انتعاشاً بوتيرة أسرع من الدول الأخرى إذا استفادت من قدرتها التي اعترف بها العالم على حل المشكلات، مضيفاً أن الاقتصاد الكوري يمكن أن يحقق قفزة إذا تم الاستفادة من الأزمة كفرصة تحسين طبيعة الاقتصاد».
وفي سياق تشخيص التحديات وطرح الاقتراحات المناسبة وجدنا بارك جيه وان يؤكد أيضاً في محاضرة ألقاها تحت عنوان «تحديات وواجبات سياسية لكوريا الجنوبية في ظل الغموض الاقتصادي العالمي» في ندوة اقتصادية انعقدت في فندق حياة في سيؤول في سبتمبر 2012 على أن «الاقتصاد الكوري يشهد تراجعاً في زخم النمو جراء الأزمة المالية العالمية»، لكنه لا يلبث أن يعود كي يؤكد أيضاً، وفي المحاضرة ذاتها، على قدرة الاقتصاد الكوري على الخروج من أية أزمة تواجهه «لكونه مجهزاً بأسس جيدة وشفافية يمكن بها مواجهة المخاطر المركبة». ولفت باراك إلى أن «حجر الأساس للتغلب على الأزمة العالمية بالنجاح هو اكتشاف منهج كوري على أساس استراتيجية تهتم في الأساس بالشفافية المالية وتعزيز القوة التنافسية للشركات ومعالجة نقاط الضعف».
هذا الشعور بالأزمة المحتملة والإصرار على إيجاد الحلول المناسبة بات، كما أشرنا، سلوكاً جماعياً يسود توجهات المؤسسة الرسمية الكورية التي نجدها تصر وتدعو علناً، دونما أية مواربة إلى ضرورة «إعادة هيكلة قطاع الشركات بالكامل اعتماداً على المبادئ التالية؛ أولاً: تقوية الإدارة والتركيز على الشفافية، حيث من الضروري التركيز على بناء سوق بنظام رقابي، يعمل على كسب ثقة المشاركين فيه، ثانياً: يجب مواصلة عملية إعادة الهيكلة بصورة منتظمة وحتى تقابل شفافية الإدارة المقاييس العالمية، فإنه يجب تطوير إعادة هيكلة القطاع الخاص بصورة مستمرة، وذلك عن طريق تقوية دور لجان الفحص والمراجعة، ومجلس الإدارة وحقوق صغار حملة الأسهم. ومن أجل التخلص من الممارسات غير الشرعية».
لقد أرسلت سيؤول تلك «الموجة الكورية»، ونجحت في انتزاع اعتراف العالم بأن هناك معجزة حقيقية تظهر «على نهر هان»، وهي دولة صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها 50 مليون إنسان بموارد طبيعية محدودة، إذا جاز لنا المقارنة مع أمتنا العربية في محاضرته التي ألقاها في ندوة أن الاقتصاد الكوري يشهد تراجعاً في زخم النمو جراء الأزمة المالية العالمية، غير أنه مجهز بأسس يواجه بها مخاطر مركبة. بتعداد سكاني يقترب من أربعمائة مليون نسمة، وموارد طبيعية استراتيجية يتصدرها النفط، وسيولة مالية تقترب من التريليون دولار.