كان الأجدر بالولايـــات المتحـــدة الأمــــريكية، فـــــي ظل القيادة الديمقراطية للبيت الأبيض، أن تكون أكثر الدول احتراماً وتقديراً للدول السائرة في طريق الديمقراطية، خصوصاً تلك التي قطعت شوطاً لا بأس به على هذا الطريق، وفــــــي الوقـــت ذاته لا تزال تعمل على تطوير تجربتها بما يتوافق مع ممارساتها للديمقراطية النابعة من خصوصيتها الثقافية. لكن الحاصل أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، في ظل الديمقراطيين بقيادة “أوباما”، لا تسير في هذا الاتجاه، حيث نرى أنها لا تتعامل في علاقتها الخارجية مع تلك الدول وفقاً للمبادئ الديمقراطية التي تؤمن بها والتي تزعم أنها تشجع الدول على تطبيق مبادئها في بلدانها والتي من أهمها احترام الفصل بين السلطات.
فموقفها الأخير من الحكم الصادر من محكمة التمييز البحرينية التي أيدت الأحكام بحق الأطباء الذين أدانتهم محكمة الاستئناف العليا؛ يثبت أنها غير معنية بالمبادئ الديمقراطية التي تتشدق بها إذا ما شعرت بأنها تتعارض مع مصالحها، ولذلك نقول إن السياسة الخارجية الأمريكية لا تقوم على الاحترام لهذه المبادئ ولا تحكمها؛ وإنما المصالح هي التي تحدد نوع العلاقات بينها وبين الدول الأخرى، وهذا ليس استنتاجاً وإنما واقعاً تؤكده العديد من الشواهد والأدلة التي تبرهن على أن الأمريكيين يتصرفون في علاقاتهم الخارجية بصورة براجماتية (عملية) حسب مصالحهم، فعلى سبيل المثال لا الحصر، خذ مثلاً تعاطيها مع ملف حقوق الإنسان في الصين وكيف أنها لا تقوم بفتح هذا الملف إلا إذا شعرت أن مصالحها تقتضي بفتحه، وما دون ذلك فإنها تغض الطرف عنه ولا تحاول الاقتراب منه، وما الكلام الذي يتردد في بعض الأحيان على ألسنة بعض المسؤولين الأمريكيين بشأن هذا الملف سوى أنه للاستهلاك المحلي.
أما المثال الحي الآخر الذي يؤكد أن الولايات المتحدة تحكمها المصالح وليس المبادئ كما تزعم؛ موقفها من الانتخابات العراقية الأخيرة التي فازت فيها القائمة العراقية بقيادة إياد علاوي ضد منافسه نوري المالكي، لكن بما أن الأول غير مرغوب فيه إيرانياً وأن الأخير رجل إيران في العراق، فإنها دعمت المالكي وذلك من خلال تنصيبه رئيساً لوزراء العراق حتى وإن كان ذلك مخالفاً لما جاءت به صناديق الاقتراع ولا يستقيم مع الشفافية والديمقراطية التي تزعم أنها تريد نشرها في الشرق الأوسط إلا أن ذلك لا يهم في عرفها ما دام أنه يحقق مصلحة للولايات المتحدة وينسجم مع نصوص التفاهمات مع عدوها الافتراضي إيران.
وإذا كان هذا هو ديدن الولايات المتحدة الأمريكية؛ فعلينا ألا نستغرب من موقفها السلبي من تثبيت الأحكام ضد 9 من أفراد الكادر الطبي ممن أيدت محكمة التمييز حكم محكمة الاستئناف بحقهم. وعلينا أيضاً أن نفهم ونعي جيداً أن هذا الموقف يندرج في إطار مصالح الولايات المتحدة الأمريكية مع أحد الأطراف في المنطقة ونعني به إيران التي يهمها أن يضغط الأمريكيون على حكومة البحرين لدفعها للتدخل من أجل إلغاء هذه الأحكام أو تخفيفها. وأن نقد الأمريكان للأحكام هو استجابة للطلب الإيراني الذي يأتي في سياق التفاهمات الأمريكية ـ الإيرانية بشأن تسوية بعض الملفات في المنطقة.
من هنا نقول أن أوراق الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية كبريطانيا وفرنسا اللتين عبرتا عن خيبة أملهما إزاء الأحكام التي تم تثبيتها من قبل محكمة التمييز باتت مكشوفة للجميع ولا تحتاج إلى ذكاء لفهم دوافعها، لذلك نرى أنه من المهم في هذه الظروف الدقيقة التي نمر بها هو أن يكون موقفنا ثابتاً وواضحاً وصريحاً إزاء هذه القضية بحيث لا تأخذ ضغوطات “الصديق والحليف الأمريكي والأصدقاء الأوروبيون” طريقها نحو تبديل مواقفنا؛ لأن الاستجابة لها في هذه الظروف يعني ضياع هيبة الدولة وإسقاط لشعاراتها التي ترفعها دائما وهي أننا دولة قانون ومؤسسات، وأن القضاء في بلادنا مستقل.
لقد خطونا خطوات كبيرة على طريق الارتقاء بنظامنا السياسي من خلال توسيع المشاركة السياسية وزيادة هامش حرية الرأي الذي يفوق الكثير من الدول، ومع ذلك لا تزال تلك الدول تشكك في خطواتنا وتصفها أنها دون المستوى المطلوب.
كما إننا نحترم الفصل بين السلطات ونعمل على تعزيز هذا التوجه من خلال اتخاذ كافة الإجراءات التي تكرس دولة القانون والمؤسسات، وفي مقابل ذلك نجد تلك الدول وفي تناقض صارخ تطالب الدولة بالتدخل في أحكام القضاء بشأن كادر الأطباء، وهي لم تلتفت إلى شهادة مجلس حقوق الإنسان الأممي الأخيرة في جنيف التي أكدت أن البحرين ماضية نحو تعزيز قيم حقوق الإنسان وأنها عازمة على مواصلة هذا الطريق؛ لأنها على قناعة تامة أن التنمية التي تطمح إلى تحقيقها هي التنمية الشاملة التي يعد حقوق الإنسان البحريني وسيادة القانون أحد محاورها الأساسية.
لهذا كله نرى أنه ليس من المقبول بعد كل هذه الخطوات أن تكون الدولة هي أول من يتدخل في قرارات القضاء؛ لأن مثل هذا التصرف لا شك أنه سيقود إلى إضعاف دولة القانون والمؤسسات، وهذا ما لا نتمناه تحت أي مبرر، وهذا ليس تحريضاً كما يفهمه البعض، لكن من باب الاحترام لسيادة القانون الذي نعتقد جازمين بأنه البداية الصحيحة للدولة الديمقراطية.