تحتضن طهران في نهاية شهر أغسطس 2012 قمة دول عدم الانحياز، التي تأتي في ظل تطورات نوعية مختلفة عن تلك التي عرفتها الحركة منذ تأسيسها في عام 1961، على يد ثلاثة رموز دولية حينها هم الرؤساء الثلاثة: جمال عبدالناصر من مصر، وجوزيف تيتو من يوغسلافيا، وجواهر لا نهرو من الهند. ولو أمعنا النظر في شخصية أولئك القادة، والظروف المحيطة بدولهم، سنكتشف أن اللقاء الثلاثي الذي جمعهم كأشخاص، لم يكن محض الصدفة، بقدر ما كان استجابة منطقية، بل وطبيعية لتوجهاتهم السياسية والنظرية. فمصر عبدالناصر، كانت، بعد ثورة يوليو 1952، تبحث عن طريق ثالث، ربقة العداء الذي يكاد أن يخنقها من الدول الغربية، إثر حرب السويس 1956، ويطلق يدها في مشروعها الوحدوي العربي، الذي لم يكن يحظى بالمباركة الغربية التي كانت ترى فيه تهديداً مباشراً للدول العربية الحليفة لها. أما يوغسلافيا فقد كانت هي الأخرى تبحث عن طريق يخلصها من سيطرة موسكو التي كانت حينها، تحت شعار توسيع نطاق المعسكر الاشتراكي، وإرغام الدول الأوروبية من أمثال يوغسلافيا على إعلان انحيازها النظري للفكر الماركسي السوفيتي، وانتمائها السياسي الذي ينبغي له أن يعلن صراحة معاداته للولايات المتحدة. ولم تكن الهند بعيدة عن هذه الذهنية الباحثة عن طريق ثالث يبعدها عن خيار صارم تضعها تحت رحمة إحدى الولايتين العظيمتين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. كانت الظروف الدولية حينها مهيأة لبروز تيار ثالث، خاصة مع تنامي حركة التحرر الوطني العالمية التي بدأت بوادرها مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وخروج دول أوروبا الغربية، بما فيها تلك المنتصرة من أمثال بريطانيا وفرنسا منتصرة، لكنها كانت منهكة.
ورغم أن البعض يؤرخ لجذور حركة الانحياز بمؤتمر باندونغ الذي عقد في العاصمة الإندونيسية جاكرتا في أبريل 1955، حيث عقد المؤتمر الأول لدول عدم الانحياز في أبريل 1962، لكن الجذور الأكثر عمقاً لمثل تلك الحركة تعود إلى العشرينات من القرن الماضي، حيث عقدت مجموعة من المؤتمرات المشابهة التي ضمت مجموعات من الدول الأفريقية – الآسيوية، مثل مؤتمر لندن في عام 1920، وتلاه ذلك الذي عقد في باريس في عام 1923، وسبقهما إلى ذلك مؤتمر باكو في عام 1920، وأركوتسك 1921. ويرى البعض، مثل «موسوعة المقاتل» أن تلك المؤتمرات جميعها «مهدت لإنشاء رابطة مناهضة للإمبريالية في عام 1924، وهي التي بادرت إلى عقد المؤتمر الأول للشعوب المقهورة في موسكو، وفي عام 1927 عقد مؤتمر بروكسل الذي شمل أول تعبير لفكرة عدم الانحياز».
يواجه مؤتمر طهران، ومعه حركة عدم الانحياز مجموعة من التحديات الحقيقية التي تضع الحركة ذاتها أمام خيارات معقدة ومصيرية. فعلى مستوى الدولة المضيفة للمؤتمر، تختلف جوهرياً عن الدول الثلاث التي أسست للحركة. فعلى المستوى النظري، تنتمي إيران للعقيدة الإسلامية، بل وتحددها في المذهب الشيعي، الذي تسعى إيران، ودون الدخول في تقويم سلوكها للوصول إلى ذلك، إلى نشر هذا المذهب من خلال دعمها المباشر وغير المباشر لدول أعضاء، بل ومؤسسة لحركة عدم الانحياز. هذا لا ينفي وقوف طهران إلى جانب بعض الحركات التحررية، بما فيها العربية مثل الثورة الفلسطينية، لكنه بالمقابل لا ينزع عنها انحيازها العقدي الذي أشرنا له.
يعزز من التحدي الذي تواجهه طهران كدولة مضيفة، كونها، وهي تدعي عدم انحيازها، ماتزال تحتل -وبشكل غير شرعي- أراضي دولة عضو في الحركة هي الإمارات العربية المتحدة التي لم تكف عن مطالبة طهران بالجلاء عن أراض ثلاث من جزرها التي احتلها الشاه محمد بهلوي الذي أطاحت به الثورة الإيرانية. ولربما نجد في خطبة إمام جمعة طهران المؤقت آية الله سيد أحمد خاتمي التي «دعا فيها دول حركة عدم الانحياز إلى إثبات حياديتها من خلال اتخاذ مواقف مناهضة لانتهاكات حقوق الإنسان» في بعض دول عدم الانحياز، دلائل أخرى مشيرة إلى عدم حيادية إيران.
أما على المستوى الإقليمي العربي، فلم تعد المنطقة العربية، كما كانت حين انطلقت حركة عدم الانحياز، منقسمة بين أنظمة جمهورية صنفت حينها على أنها «تقدمية»، مثل مصر، والعراق، وأخرى «محافظة» مثل الأنظمة الخليجية. فخلال الثلاثين سنة الماضية، عرفت البلدان العربية، دون أي استثناء، تحولات جذرية في دولها جميعاً، دعت الكثيرين ممن أخذوا بذلك التصنيف إلى أن يعيدوا النظر فيه. بل ربما جاءت رياح ما أصبح يعرف باسم «الربيع العربي»، لتكشف بالملموس أن دولاً كانت تصنف في خانة «الدول التقدمية»، لم تكن أقل فساداً، ولا قمعاً، ولا تخلفاً من دول كانت توصم بـ»الرجعية، والمحافظة، والقمعية»، دون أن يعني ذلك تبرئة ذمة هذه الأخيرة.
أما على المستوى الدولي، فقد عرفت العلاقات الدولية تحولاً جوهرياً ملموساً منذ تهاوي الكتلة السوفيتية، وما قاد إليه ذلك الانهيار من سقوط النظام الدولي الثنائي الاستقطاب، واستفراد الولايات المتحدة بمكانة الدولة العظمى الوحيدة، لكنها هي الأخرى لم تكن مؤهلة لاحتلال ذلك الموقع الزعامي، نظراً للمشكلات البنيوية العميقة التي تعاني منها، على المستويين السياسي والاقتصادي، حيث لم تعد واشنطن تلك القوة اليافعة المفعمة المتمتعة بالحيوية والديناميكية التي كانت تنعم بها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، التي أهلتها لقيادة المعسكر الغربي في وجه القوة السوفيتية المتعاظمة حينها أيضاً.
فقد تحولت واشنطن اليوم إلى دولة بوليسية تمسك بعصاها الغليظة، وتبيح لنفسها إرسال قواتها للتدخل في شؤون دول صغيرة مثل العراق وقبلها أفغانستان، تحت مبررات واهية، بعضها يحمل شعارات «محاربة الإرهاب»، والبعض الآخر «حماية السلام العالمي من أخطار نووية»، كما نشاهده اليوم في حربها ضد إيران.
حتى على الجبهة الاقتصادية، لم يعد الاقتصاد الأمريكي، ذلك الذي عهدناه في نهاية الحرب الكونية الثانية، القادر -وإن كانت منطلقاته أنانية محضة- على انتشال أوروبا من أزمتها الاقتصادية التي ورثتها بعد تلك الحرب، بمشروع مارشال، تضخ من خلاله عشرات الملايين من الدولارات كي يساعد الحليف الأوروبي على الوقوف على قدميه أولاً، ومواجهة الكتلة السوفيتية ثانياً.
الأمر ذاته يتكرر عند الحديث عن الاقتصاد الرأسمالي ذاته، فقد بتنا نشاهد دولاً أوروبية غربية، من مستوى إيطاليا واليونان، بل وحتى بريطانيا التي كانت تطلق على نفسها صفة «العظمى»، يتهاوى أمام ضربات ارتفاع معدلات التضخم، وتنامي نسب البطالة، دون أن يقدر على معالجة أي من تلك المشكلات بتصديرها إلى مستعمراته كما كانت تعمل بريطانيا، عندما كانت دول مثل الهند وأستراليا وبعض الدول الإفريقية المستعمرة «بفتح الراء» المهدئ الذي يعينها على التقاط أنفاسها قبل البدء في العلاج