تبدو القصتان بلا رابط، ولكنهما في حقيقة الأمر فصلان في رواية، منذ فترة تمتد لأكثر من شهر أتابع بقهر وامتعاض وقائع معركة غير متكافئة بين ما بقي من عرب فلسطين، وبين سلطة احتلال غاشمة، وجدت معونة لها من أنحاء الدنيا الأربعة لقيام دولة مسخ، فيما وجد أهل الأرض الأصليون خذلاناً مربعاً من أركان الدنيا الأربعة، المعركة دارت حول قبور أسلافي في مسقط رأس والدي وجدي وجد والدي، قرية وادعة جميلة تقع بين نهر وبحر، ولا تبعد كثيراً عن يافا، وكانت تسمى الشيخ مونس، باسم أحد الأولياء، وبالمناسبة أرض فلسطين والأردن مليئة بقبور هؤلاء.
المهم، ما يسمى المحكمة العليا الإسرائيلية ردت قبل أيام طلباً مستعجلاً لاستصدار أمر احترازي لوقف بناء مساكن للطلبة تابعة لجامعة تل أبيب فوق مقبرة إسلامية، وفق صحيفة إسرائيلية، لم تسمّ لا اسم المقبرة ولا اسم القرية، وتمضي في التضليل، فتقول إن جامعة تل أبيب قررت بناء مساكن جديدة لطلبة الجامعة، في “رامات افيف” “مغتصبة أقيمت على أراضي الشيخ مونس!” إلا أنه وفي أعقاب بدء حفريات مُسبقة في المكان والتي قامت بها سلطة الآثار، بناء على طلب من جامعة تل أبيب والمقاولين المشرفين على المشروع، تم اكتشاف 26 قبراً في المكان تعود إلى أيام الحكم العثماني، “طبعاً هذا غير صحيح، فالقبور تعود لأسلافي سكان الشيخ مونس، الذين هجّروا منها عام 1948”. وفي اعقاب اكتشاف هذه القبور، تقدمت مؤسسة الاقصى الشهر الماضي بطلب للمحكمة العليا “لوقف بناء مساكن للطلبة، في المكان، وعدم المس بكرامة الموتى”. وجاء في قرار القاضي اوري شوهم أن “أعمال التطوير في المكان لا تمس حق الدفاع عن احترام الموتى، وليس في ذلك ما يبرر وقف البناء”. وعليه تقرر رد الالتماس طبعاً، وهذا ما كان متوقعاً، فالقبورلا تعود ليهود، حتى حينما يخربش طفل على شاهد قبر ليهودي، يعتبرونه انتهاكاً لحرمة الموتى!.
أحسست أن أسلافي وأجدادي ماتوا مرتين، مرة حينما دفنوا في المقبرة، والمرة الثانية حينما هرست عظامهم جنازير وبلدوزرات الاحتلال، ولم يعدل من مزاجي إلا مشهد الطفلتين بشائر وبيسان وهما تستقبلان أخيهما مهند، بفرحة غامرة ودموع منهمرة، مهند ابن الأسير عمار الزبن الذي رأى النور بعد عملية تهريب معقدة لنطفة والده عمار من خلف الأسوار العالية وقضبان السجن الحديدية. “مهند” دخل التاريخ، فهو أول طفل يولد من أب محكوم بـ 27 مؤبداً، واعتقل منذ 15 عاماً، وهو نتاج أول نطفة لأسير ترى النور بعد تهريبها لخارج السجن، حيث تمكّن الأسير عمار من تهريب نطفته قبل 9 شهور، حيث أجريت عملية زراعة طفل الأنابيب لزوجته.
بعد خروجها من غرفة العمليات، احتضنت الأم مولودها بشوق كبير.. وسالت دموعها فرحة برؤية ثمرة صبرها وجهادها هي وزوجها، وفي خضم تلك المشاعر، قالت “إنها تجربة صعبة تحتاج لجرأة وشجاعة وصبر، أدعو كل زوجات الأسرى ذوي المحكوميات العالية بألا يضيعن على أنفسهن هذه اللحظات.. وأن يقمن بذات التجربة.. فالأيام تمضي وفرص الإنجاب تقل لها ولزوجها”.
مهند الآن بمثابة بارقة أمل لكثير من الأسرى الذين يرغبون بالإنجاب.. وهذه الطريقة هي أحد طرق التواصل المشروعة بين الأسرى وزوجاتهم، وأتمنى أن تنجح كل محاولات الأسرى بالإنجاب بهذه الطريقة إن شاء الله.
أسلافي لم يموتوا، فقد بعثوا من جديد، بأسماء جديدة، ونطف مليئة بالعنفوان، تجتاز أسوار السجون، وتجترح المستحيل، كي يعود الراحلون إلى الحياة، في امتداد لا ينقطع، للأجيال، التي ستحرر فلسطين، وتعود إليها فاتحة منتصرة، بعون الله جلت قدرته.
عن صحيفة «الدستور» الأردنية