تناقلت وكالات الأنباء مؤخرا خبر قصف مخيم اليرموك في العاصمة السورية دمشق الذي أسفر عن مقتل 15 شخص. وتفاوتت الروايات حول الأسباب التي أدت إلى ذلك، ومن بينها رواية مدير منظمة المرصد السوري لحقوق الإنسان رامي عبدالرحمن مدير هذه المنظمة الذي قال فيها “أن القصف وقع أثناء اندلاع المعارك بين قوات الحكومة والثوار المقاتلين في حي التضامن بالقرب من دمشق، وأنهم يطالبون بإجراء تحقيق دولي للوقوف على حقيقة هذا القصف”. من جانبها، نفت وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا) مسؤولية النظام السوري عن ذلك القصف، وبالمقابل اتهمت “مجموعة إرهابية مسلحة استهدفت حي اليرموك بقذائف هاون من حي التضامن المجاور، ما أدى إلى مقتل وإصابة عدد من المواطنين”.
من الطبيعي أن تحث مثل هذه الظواهر غير المخطط لها، في خضم أحداث صدامات عسكرية كالتي تشهدها العاصمة السورية اليوم، حيث يتحول بعض المواقع، التي يفترض أن تكون بعيدة عن الصراع لقصف مدفعي، إما بطريق الخطأ، أو لأهداف أخرى، لا يشكل احتلال الموقع أو الانتقام من سكانه أحدها.
ما يهم هنا، بغض النظر عن نوايا الضالعين في تلك الصدامات، هو أن القصف قد تم، والضحايا قد وقعوا، وتحول قصف مخيم اليرموك عاملا لا يمكن أن يستخف به في معادلة الصراع المحتدم في سوريا اليوم، خاصة بعد أن استنكرت حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية “حماس” ذلك القصف، ووصفته بـ “الجريمة البشعة”. وعلى نحو مواز، وهو عامل لا يمكن تجاوزه اتهمت السلطة الوطنية الفلسطينية “أطرافاً مؤيدة للنظام السوري، على رأسها الجبهة الشعبية - القيادة العامة، بمحاولة زج المخيمات بالصراع الدائر”. هناك تفاوت واضح بين “حماس” و« السلطة” في تشخيص كل منهما للأسباب الكامنة وراء ذلك القصف.
لكن الأهم من ذلك هو المواقف السورية المباشرة، من الطبيعي أن تبدأ سلسلة من الاتهامات المتبادلة بين أطراف الصراع من أجل تبرئة الذات، وإلقاء المسؤولية على الآخر، نظراً لحساسية القضية الفلسطينية، ومن ضمنها ملف المخيمات، في نفسية المواطن العربي، وعلى وجه التحديد في الدول المتاخمة لإسرائيل. ومن ثم فمن غير المستبعد أن نشهد شكلاً من أشكال الحرب الإعلامية بين الأطراف ذات العلاقة بقصف المخيم: السلطة السورية، القوى المعارضة لها، بعد أن ينضم لتك الحرب قوى فلسطينية، بما فيها تلك المحايدة في النزاع السوري. هنا، وكما شاهدنا في حالات عربية أخرى مشابهة، يعتبر حصار مخيم “تل الزعتر” في لبنان في يونيو 1976 الذي دام حينها ما يربو على 52 يوماً الأبرز بينها، سيتحول العنصر الفلسطيني الذي سيزج به في الصراع إلى عامل مؤثر في المعارك الدائرة في سوريا اليوم، شاء الفلسطينيون أم أبوا، وأرادت قياداتهم ذلك أم رفضت. ولن يقتصر الأمر كما شاهدنا في مخيمات دول عربية أخرى على الساحة الإعلامية، بل ربما يتسع نطاقه كي يشمل التحالفات العسكرية. ومن جديد سترغم القضية الفلسطينية على دفع ضريبة باهظة عليها تحملها، وتحمل تبعاتها، ليس في الساحة السورية فحسب، وإنما على مستوى الوجود الفلسطيني في الشرق الأوسط، بما في ذلك إسرائيل.
تبعات ذلك في المعادلة السورية، ستبدأ رحلتها، فيما لو حملت إحدى الكتل العربية أو الدولية، أوراق قصف المخيم وأضافتها إلى ملف القضة السورية في الجامعة العربية والأمم المتحدة على حد سواء. حينها ستزداد الأمور تعقيداً في سوريا، وسيحاول كل طرف في معادلة الصراع تجيير مواد تلك الأوراق لصالحه عند مناقشة محتويات ذلك الملف. لا ينبغي الاستخفاف بالحيز الذي ستحتله الأوراق الفلسطينية، والانعكاسات التي ستولدها، في تلك القضية، ولدينا في أحداث الحرب الأهلية اللبنانية تجارب غنية في هذا الاتجاه.
الأخطر من ذلك هو عندما يتحول ذلك القصف، الذي ربما كان عشوائياً وغير مخطط له، إلى شرارة تشعل نار حرب فلسطينية داخل المخيم ذاته، فليس بخاف على أحد أن الجسم السياسي الفلسطيني مقسم ، ومخيم اليرموك ليس استثناء فيه، هو الآخر بين متحالف مع النظام السوري، من أمثال الجبهة الشعبية - القيادة العامة التي يترأسها أحمد جبريل، وآخر متعاطف مع “الجيش السوري الحر” من الأطراف الفلسطينية ذات الارتباط، شكل أو بآخر بالحركة الإسلامية السنية المتحالفة مع ذلك الجيش، وثالث يقف على الحياد، لكنه حياد مؤقت، فيما لو اندلعت صدامات داخلية فلسطينية، كردة فعل، ربما تكون عفوية، على ذلك القصف. وسحابة اغتيال القيادي في حركة “حماس”، كمال غناجة في أواخر يونيو 2012، في منزله بدمشق، ومطالبة الحركة بالتحقيق فيها، ما تزال قائمة في سماء العلاقات الفلسطيني – السورية.
لذا، وكي لا يتسع النطاق البشري للصرع الدائر في سوريا اليوم، ويزج بالكتلة الفلسطينية فيه، هناك حاجة ماسة إلى مواقف شجاعة من الأطراف الثلاثة ذات العلاقة به من سوريين وفلسطينيين، ينبغي أن تصب جميعها في الحيلولة دون تحول العنصر الفلسطيني، إلى أحد عوامل معادلة صدامات الساحة السورية. ويمكن تحقيق ذلك من خلال الخطوات التالية:
على المستوى الفلسطيني، وهو الأكثر أهمية وأشد إلحاحاً، من الضرورة بمكان مسارعة القيادات الفلسطينية، بغض النظر درجة قربها أو بعدها من أي من أطراف الصراع السوري، إلى لعق جراحها، والاتفاق على موقف واضح موحد، يحيد الوجود الفلسطيني في مخيمات الساحة السورية، بعد أن يقنع، كل طرف، حلفائه في المعسكر السوري، بأن هذا الحل هو الأفضل للطرفين السوري بشقيه، والفلسطيني أيضاً. لا شك أن تحقيق ذلك هو مهمة صعبة، إن لم تكن شبه مستحيلة، لكنها الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تجنيب مخيم اليرموك معارك داخلية فلسطينية باهظة الثمن، وغير مبررة، خاصة في هذه الفترة، حيث تبحث إسرائيل عن لحظات تبتعد عن جرائمها أضواء الإعلام الدولي، وفي مرحلة اقتراب موعد حملات انتخابات الرئاسة الأمريكية، كي تجد في ذلك فرصتها التي تبحث عنها لتمرير بعض مشروعاتها ضد الوجود الفلسطيني في الأراضي المحتلة، بما في ذلك بناء المستوطنات.
أما على المستوى السوري، فينبغي أن يتحاشى الطرفان اللهث وراء المشجب الفلسطيني لتعليق ملابس صراعاتهما عليه، فقد يسبق أحدهما الآخر إلى ذلك المشجب، لكنه سيكتشف أنه مشجب، في معادلة الصرع السوري الداخلية، غير قادر على حمل أخف الملابس، فما بالك بتلك الغاية في الثقل، مثل ثياب الصراع القائم اليوم في سوريا.
من هنا، وما دامت الأمور، فيما يتعلق بقصف مخيم اليرموك، في حيز ضيق ، نسبيا، يمكن السيطرة عليه، فينبغي محاصرة ذيول القصف، وإبعاد، المخيم، قدر الإمكان، ومعه القضية الفلسطينية عن معادلة الصراع القائم في سوريا، وأوحالها الملتصقة بها.