المليشيات مقدمة للاقتتال الأهلي، هكذا يقول لنا التاريخ القديم والحديث والمعاصر.
المليشيات سواء أكانت مسلحة أو غير مسلحة تظل مليشيات وتتصرف بعقلية المليشيات دون تردد: ترهيب ووعيد وتطرف وتعصب واستعداد دائم للاعتداء على”الآخر” حتى وإن كان هذا الآخر شريكاً في الوطن.
لقد تعودنا على مليشيات عسكرية في لبنان وهي في تركيبتها وإيديولوجيتها طائفية بالدرجة الأولى تنزع إلى بناء الكنتونات الجغرافية والسكانية الخاصة والملاذات الآمنة لجمهورها بعيداً عن سلطة الدولة التي تحولت في مثل هذه الحالة إلى مجرد سلطة رمزية، ولكن الذي شهدناه خلال السنوات الأخيرة وبالتزامن مع الثورة الاتصالية، واتساع نطاق وتأثير واستخدام التواصل الاجتماعي ظهور ما يمكن أن نسميه بمليشيات إعلامية (توتيرترية - فيس بوكية - كيبوردية..)، وهي بالفعل تعمل بمنطق وبأفق وبآليات عمل المليشيات الطائفية والعسكرية، لها نفس الأهداف، نفس التكتيكات، لكن بوسائل قتالية مختلفة تتوجه بالدرجة الأولى إلى التزييف والإشاعة والفبركة والتحريض والكذب، المهم هو العدوان وقمع الأعداء، وإسكات مصادر النيران وإلحاق الخزي والعار بالآخرين، بغض النظر عن مدى صحة المعلومات التي يمكن تداولها (فلا أحد تقريباً يهتم بالصدقية ولا أحد يهتم بالحقيقة) الكل يهتم بتحقيق هزيمة “الأعداء” الأيديولوجيين أو السياسيين أو الطائفيين...
المعارضات تجند مليشيات حقيقية وتقيم لها “قواعد عسكرية” في العواصم الغربية، لإدارة المعركة الإعلامية ضد الأنظمة، بمنطق المليشيات وليس بمنطق السياسة: هجمات يومية، قصف إلكتروني مستمر، أسماء حركية ووهمية وراء ما يكتب، رموز وألقاب تذكرنا بمرحلة الحرب الأهلية اللبنانية؛ أبو الهول، أبو الهيجاء، أبو انتصار، أبو الهدى...
والمليشيات يمكنها أيضاً أن تكون طائرة متنقلة من بلد إلى آخر (وخصوصاً في البيئات المتعاطفة) لإدارة المعركة العينية اللحظية؛ لقاءات تصريحات، مشاركة في مهرجانات خطابية، قصف طويل المدى بالصواريخ العابرة للحقيقة، أكاذيب منمقة، روايات مثيرة لاستدرار العطف والتعاطف... الخ..
إن الاستمرار في استخدام مثل هذه المليشيات المأجورة (في الغالب تقيم في أوروبا على نفقة المجهول) ولذلك فإن المطلوب ليس الغرق في القتال الوهمي، وإنما فتح أوسع حوار بين أجنحة ومكونات المشهد السياسي الوطني، حيث تقتضي الأزمة المستعصية في الواقع المحلي فتح باب الحوار بين مختلف التيارات والحركات الفاعلة على اختلاف مشاربها الفكرية والأيديولوجية؛ الماركسية، والقومية، والإسلامية المتنورة، لولا مجال إذن لمن يرفض الحوار ويعتبر نفسه البديل المطلق لكافة التيارات الأخرى الفاعلة في الواقع، هؤلاء الذين يرفضون الحوار هم الذين يبنون المليشيات من خارج أفق القانون والقيم.
إن المطلوب في الأفق المباشر ودون تردد أو إبطاء، تجميع القوى الوطنية العقلانية القادرة على إخراج البلاد من المأزق، بالالتقاء عند نقطة وسطى، من خلال محددات واضحة يتفق بشأنها هي أقرب إلى البرنامج الوطني منه إلى الحالة السياسية المنفلتة التي يتبادل فيها الطرفان أو الأطراف أنواعاً وضروباً من القصف، ويتمثل ذلك في العمل على إعادة النظر في تنظيم المؤسسات الحقوقية بما يضمن استقلاليتها ونزاهتها وخدمتها لجميع المواطنين كمواطنين، وتعزيز القوانين والتشريعات الضامنة للمساواة بين المواطنين، وتجريم أي (أقوال، وأفعال) تمييز بين المواطنين على أساس العرق أو الدين أو الطائفة أو المنطقة، والتمييز بين التعاون والتواصل الضروريين مع العالم، وبين التبعية للجهات الخارجية ضد المصلحة الوطنية. وتعزيز الجانب الاقتصادي - الاجتماعي باعتباره الشرط الأساسي لضمان نجاح الديمقراطية، وانعكاس ثمارها العملية على المواطنين، فالديمقراطية السياسية لوحدها لا تخلق الاستقرار والازدهار والتنمية. والعمل في ذات الوقت على إيجاد أفضل السبل الواقعية لحل المشكلات المزمنة وعلى رأسها؛ البطالة، الإسكان، الرواتب، ووضع إطار وطني لحل هذه المشكلات في أفق يراعي إمكانيات البلاد ومواردها، والعمل على الانتقال من (دولة الرعاية) إلى (دولة المشاركة) بحيث تكون جميع الملفات الاقتصادية والاجتماعية محكومة بمنظور الشراكة بين الدولة والمواطنين كلاً بحسب إمكانياته، بالانتقال من حالة مسؤولية دولة فقط إلى مسؤولية دولة ومجتمع معاً، وفقاً لنظام منصف للمشاركة. والعمل على حل مشكلة الدعم الحكومي وترشيده ليصل إلى مستحقيه عن طريق البدء بتطبيق نظام عادل وتدريجي للضرائب على الدخل والأرباح، لتمويل هذا الدعم. وتقوية القاعدة الاقتصادية وتنمية الدخل الوطني وتشجيع الاستثمار والتوسع في سياسات الخصخصة وتعزيز قدرة البحرين على المنافسة.