كان سقوط البعث في العراق سنة 2003 هو الجولة الأولى من انتهاء مرحلة البعث؛ مثلما انتهت المرحلة الناصرية من قبله، بانتصار التحالف الغربي - الصهيوني، وكانت الخطة الأمريكية المعلنة وقتها هي الانقضاض على سوريا بعد العراق، لولا حسابات طارئة وارتفاع كلفة الاحتلال وظهور المقاومة الشرسة في العراق. اليوم ندخل الجولة الثانية والأخيرة لسقوط البعث أو ما بقي منه، وهذه المرة في سوريا بسيناريو مختلف، وبأدوات وآليات مختلفة تتناسب مع ما ترفعه الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة الأمريكية من شعارات تتعلق بالإصلاح ونشر الديمقراطية (ونلاحظ هنا أنها لا تتحدث عن تخليص سوريا من أسلحة الدمار الشامل رغم إعلان سوريا رسمياً أنها تمتلكها وقد تضطر إلى استخدامها ضد أي عدوان خارجي). ومن الواضح أن النظام السوري، ومهما طال الزمن أو قصر قد شارف على الانتهاء عملياً على الأرض بعد أن انتهى سياسياً في الخارج، وفقد جانباً كبيراً من شرعيته الداخلية، ولم يعد يتشبث ببقائه إلا بقايا حزب البعث وأصحاب المصالح الراسخة، والذي إذا ما سقط النظام سقطوا معه وانتهت مصالحهم. ومن الواضح أنه لن تفيد النظام السوري الذي دخل نفق التآكل الداخلي الهبة الروسية والصينية المصلحية، لأنها تأتي في سياق المساومة على المصالح وتقاسم ثمار التقسيم العالمي الجديد للمنطقة، ولا علاقة للأمر بالدفاع عن نظام الأسد، حيث سبق لروسيا والصين أن تركتا نظام البعث في العراق، وهو حليف موثوق ومفيد وأكثر قوة ومصداقية من نظام دمشق، يسقط دون أن يبديا أي حراك جدي.. كما لن تفيده كثيراً خطابات نصر الله الحماسية واستنهاض معان سبق لها وأن سقطت وانكشفت أوراقها المتآكلة، كما لن يفيده في النهاية الحلف مع إيران التي سوف تضطر إلى التنصل من نظام البعث الذي يعتبر عدواً استراتيجياً لفكرها ولأيديولوجيتها الولائية.. فمن الواضح أنّ هيمنة السلطة القائمة في سوريا قد شارفت على نهايتها حتى ولو لم يسقط البعث فوراً فإن النظام قد سقط سياسياً بالفعل داخلياً وخارجياً. السلطة في سوريا اليوم عاجزة عن الخروج من المأزق الذي وضعت نفسها فيه ووضعتها فيها عوامل داخلية لم تفلح في التعاطي معها، وعوامل خارجية راهنت فيها السلطة على ما يتيحه الاستقطاب كآلية دفاعية غير مضمونة من وقت للمناورة، فأصبحت أجهزتها الأمنيّة المنهكة لا تقوى على وقف إرادة السوريين في الإطاحة بها، لذلك يبدو رجحان رحيل سلطة البعث (لا الأسد) هو المرجح على المدى القريب، لأن سلطة الأسد قد انتهت عملياً بسقوط المعابر وبعض المدن والأحياء في أيادي المعارضة المسلحة، بما وضع السوريين أمام تحديات غير مسبوقة ولا تطاق، فبعد الدمار الواسع وحجم الضحايا الضخم وحجم الترويع واستخدام القوة الثقيلة لدك المنازل وقتل الناس وإعدامهم في الشوارع (مهما كانت المبررات) سوف يكون من الصعب إعادة نسج الثوب السوري الذي تمزق اجتماعياً وسياسياً وطائفياً ومناطقياً، بما هدد نموذج المجتمع السوري الحداثي المتآلف في العمق. السلطة الحالية عبثت بالوحدة الوطنيّة كي تضمن من خلال شق المجتمع طائفياً ومناطقياً إمكانية بقائها لأطول مدة ممكنة، والمعارضة في المقابل متشظية وغير قابلة للتوحد تتناهشها التجذابات الداخلية والمصالح المحلية والخارجية، وتستغلها القوى الإقليمية والدولية لإدارة معاركها الخاصة على حساب السوريين، من خلال حسابات القوى الخارجيّة حول استنزاف سوريا نهائياً، وإحياء الانتماءات التقليديّة من سباتها لتطغى على الروح الوطنيّة، كي يبقى البلد ضعيفاً لأمدٍ طويل تماماً مثل ليبيا ولم لا الصومال، وكي تصبح هذه القوى هي الحكم بين أطيافه.