استقبلت المقاطع المبثوثة على الإنترنت من فيلم “براءة المسلمين” بموجة عارمة من الاحتجاجات العنيفة، تمحورت معظمها حول هجمات عنيفة على السفارات الأمريكية، كردة فعل على ذلك الفيلم الذي يقف وراءه – حتى الآن، وكما يتناقل – ذلك القس الأمريكي الذي تجرأ، قبل نحو 6 أشهر، على حرق نسخ من القرآن الكريم. ليست هناك من حاجة للتوقف عند رداءة المستوى الفني بذلك الفيلم، وعلى جميع الصعد، والتي يمكن أن يلمسها أي مشاهد عادي له، فقد تناول ذلك الهبوط في المستوى، وبكثير من الموضوعية موقع هيئة الإذاعة البريطانية، فما هو أهم من ذلك معرفة الأسباب الجوهرية التي قادت إلى إنتاج فيلم بهذه الرداءة الفنية، وهذا الحقد الدفين الذي حمله من يقف وراءه، لمعالجة قضية تعتبر من أهم القضايا، ليست على المستوى الإسلامي، فحسب، وإنما على المستوى الدولي. فشخصية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، حتى عندما تجرد، والعياذ بالله، من قدسيتها الدينية تبقى، وهو ما يعترف به الآخرون قبل المسلمين، شخصية فكرية عالمية، صنفت، ومن قبل غير المسلمين، على أنها الأكثر تأثيراً من بين أهم 100 شخصية عالمية.
أول تلك الأسباب وأكثرها أهمية، هو ذلك الشحن الإعلامي والسياسي الذي تبنته الإدارة الأمريكية في عهد بوش الابن، كي تبرر غزوها لأفغانستان، وفي مرحلة لاحقة تدخلها العسكري المباشر في العراق. لم تحصر تلك الإدارة صراعها على المستوى الدولي في “تنظيم القاعدة”، ولم تشخصنه في مواجهة زعيمها أسامة بن لادن، بل سمحت لنفسها وللمؤسسات التي تحت سلطتها، بما فيها المؤسسات الأكاديمية الرصينة مثل جامعة هارفرد، والقوى المتحالفة مع الإدارة الأمريكية على المستوى الدولي، لتتجرأ فتجير كل ما بحوزتها من أسلحة كي تشن حملة مسعورة ضد الإسلام كفكر وليس ديانة فحسب، والمسلمين، كانتماء وليسوا مجرد كتلة بشرية.
فلت العقال من يد الإدارة الأمريكية، لكنها لم تكن صادقة فيما ادعته من سعيها لحد من اتساع دائرة البغض الذي رافق تلك الحملة، وتطور الأمر كي يصبح حالة عداء مستحكم، تصاعد بشكل جنوني كما ترجمته الكثير من الأعمال الحاقدة ضد الإسلام. مما دفع البعض إلى أن يربط بين تلك الظاهرة المسعورة وبين التحليل النفسي الفرويدي المعروف باسم “التوأمة النفسية”. حيث ارتبط، وهذا ما سعت له إدارة بوش الابن، الإسلام في ذهن المواطن الغربي، وعلى وجه الخصوص منه الأمريكي، فكراً وممارسة، الإسلام بالإرهاب بأشكاله كافة، فردياً كان ذلك الإرهاب أم جماعياً، وبتنا نسمع ونشاهد ونقرأ من الإعلام الأمريكي، وبشكل ممنهج مدروس، حكايات مختلقة، تاريخية ومعاصرة، عن ذلك التطابق بين “الإسلام” و« الإرهاب”، الذي كرست إدارة بوش جهودها في حملات أطلقت عليه حينها “تجفيف منابع الإرهاب”، والتي تعني عملياً، وتلك الإدارة واعية لها، شن حرب عالمية على الإسلام فكراً وحضوراً سياسياً قائماً. بالمقابل، وهنا ينطبق التحليل الفرويدي بشأن “التوأمة النفسية”، ترسخت صورة الأمريكي كعدو قائم، في ذهنية نسبة عالية من المسلمين، وعلى وجه الخصوص العرب منهم.
وجندت إدارة بوش في حملة تجييشها تلك المؤسسات التعليمية العريقة التي أنشأت في إداراتها أقساماً لـ “فهم” ما أطلق عليه حينها الإرهاب، وعقدت الكثير من الندوات وورش العمل، من أجل التصدي لذلك الإرهاب وطرق محاربته. هذا الأمر الذي أعطي صبغة أكاديمية، مختلف تماماً عن ظاهرة أخرى شبيهة هي الموجة الاستشراقية التي ارتبطت في جزء منها بالحركة الاستعمارية، لكنها كانت موضوعية، ونجحت، بفضل تلك الموضوعية، في إثارة قضايا جدلية ذات علاقة بالفكر الإسلامي. ولعل في كتاب مثل “شمس الله “العرب” تشرق على الغرب” لمؤلفته المستشرقة الألمانية زغريد هونكة مثل ساطع على المعالجة الموضوعية على العلاقة بين الإسلام والحضارات الأخرى، بما فيها الحضارة الغربية المعاصرة.
على الضفة الأخرى وجدنا، حتى أولئك الذين اختلفوا مع الحركة الاستشراقية من أمثال إدوارد سعيد، اضطروا إلى تكريس سنين طويلة من حياتهم البحثية، ولم يلجأوا، كما شاهدنا اليوم، إلى ردة فعل عفوية عنيفة، كي يسلطوا الأضواء على تلك العلاقة بين المدارس الاستشراقية المختلفة، والحركة الاستعمارية التي كانت تلك المدارس إحدى نتائجها.
لم يخرج المسلمون، ومن بينهم العرب، في مظاهرات عنيفة للرد على ما كتبه المستشرقون، بل رأيناهم يتلقون علومهم في جامعات ومعاهد غربية، مثل كمبريديج، وأوكسفورد في بريطانيا، والسوربون في فرنسا، وتوبنغن في ألمانيا، تخصصت في هذا العلم، ثم يدخلون في حوارات معمقة مع ما أنتجته تلك الجامعات والمعاهد من مادة، كان البعض منها من أفضل ما كتب عن الإسلام كدين، والرسول صلى الله عليه وسلم كنبي، بغض النظر عن هوامش الاتفاق أو الاختلاف التي أثارتها مثل تلك الاجتهادات الاستشراقية.
لذا فما تحصده إدارة أوباما اليوم، والذي يتمظهر في الأعمال العنيفة ضد السفارات الأمريكية، إنما هو ثمرات ما زرعته إدارة بوش خلال الثمان سنوات من عمرها، وخاصة تلك الفترة التي أعقبت أحداث 11 سبتمبر 2001، والتي تحولت الإدارة الأمريكية حينها إلى ما يشبه “الكلب المسعور”، في علاقتها مع الإسلام، مما أفقدها الكثير من اتزانها، وحال دون رؤيتها للأمور بشكل صحيح ومن منظار موضوعي، يفترض أن تستخدمه دولة عظمى، باتت وحيدة دون منافس في الملعب الدولي. هذا على المستوى الخارجي، أما على المستوى الداخلي، فيستحضر مشهد الهجوم على السفارات الأمريكية اليوم، ما جرى في عام 1979 عندما أطاحت أزمة حجز الرهائن الأمريكية في مبنى السفارة الأمريكية في طهران بحكم الديمقراطيين. فهل يتكرر اليوم المشهد ذاته، ويؤدي مقتل السفير الأمريكي في طرابلس إلى وأد حلم أوباما، ومن ورائه الحزب الديمقراطي في كسب جولة الانتخابات الرئاسية القادمة؟ لقد بدأ الجمهوريون الاستفادة مما جرى في تلك السفارة لصالح حملتهم الانتخابية، كما سمعنا على لسان مرشحهم الرئاسي ميت رومني الذي سارع إلى القول “إن كل ما يحدث الآن لهو وصمة عار على البيت الأبيض”، ومن المتوقع أن “يعزف رومني على نغمة الولايات المتحدة التي خسرت مصر، وأوباما الذي لم يستطع حماية حلفائه في الشرق الأوسط”.
أما فيما يخصنا نحن العرب، وبعيداً عن الانتخابات الأمريكية، فمن الخطأ حصر ما جاء في فيلم “براءة المسلمين” في اجتهاد ذلك القس الأمريكي، والاكتفاء بما واجهه ذلك الفيلم بمجموعة من أعمال العنف ضد بعض سفارات الولايات المتحدة، فالأمر أخطر بذلك بكثير، ويحتاج، بعد تراجع موجة العنف العفوي التي نفهمها، دون أن نؤيدها، إلى وضع استراتيجية عربية، بل ربما إسلامية، متكاملة وراسخة، قادرة في أية لحظة يتعرض لها الإسلام لأية إساءة مثل تلك التي تعرض لها عندما أحرق القرآن الكريم، وفي أكثر من بلد، أو عندما يساء للرسول الكريم في عمل رخيص، وهابط فنيا مثل فيلم “براءة المسلمين”، أن يكون لدى المسلمون، الأموال، والمؤسسات، والقنوات، والحضور الدولي المسموع الصوت، والحلفاء القادرين على الرد على تلك الإساءات، بشكل حضاري قوي مقنع، لا يدحض ادعاءات المسيئين فحسب، وإنما يظهر الأمور على حقيقتها.
ليس المطلوب هنا تنصيب المسلمين آلة متحجرة تقفل باب الاجتهاد، وتحظر على الجميع مناقشة القضايا الإسلامية، لكن ينبغي أن يتم كل ذلك وفق قوانين تقوم على احترام رأي الآخر والقبول به، لا الإساءة له، والانتقام منه، كما شاهدناه في فيلم هابط مثل “براءة المسلمين