بعيداً عن الجدل النظري حول الديمقراطية وعلوية الحرية في أي نظام ديمقراطي، فإن التجارب في العالم الديمقراطي ذاته بينت أنه عندما يحدث التعارض بين الحرية والقانون يتم تقديم مقتضيات تطبيق القانون، وعندما يقع التعارض بين الحرية والأمن يتم بشكل آلي تقديم الأمن عن الحرية مطلقاً، رأينا ذلك في أمريكا وفي فرنسا وفي بريطانيا وفي اليونان.
المسألة إذن تنتهي بنا إلى أنه من حق الدولة الديمقراطية تقييد عمل المجموعات المتجاوزة للقانون أو المثيرة للفوضى والشغب، حتى وإن كانت تفعل ذلك من أجل الديمقراطية، على أن يكون هذا التصدي بواسطة القانون وبواسطته فقط، فعندما تشكل هذه الجماعات خطراً على وجود الديمقراطية والحرية نفسها يتم في المجتمع الديمقراطي اتخاذ الإجراءات القانونية لحماية الحرية والديمقراطية دون تردد.
ويظهر هذا التوجه عبر سن قوانين تمنع التحريض الفوضوي وانتهاك حرية المجتمع، ومنها حقه في ممارسة حياته الطبيعية والوصول إلى حقوقه الثابتة، وعندما يكون هناك خطر يتهدد الديمقراطية فإنه يمكن المس ببعض الحقوق الأساسية، وبصورة استثنائية، مثل تقييد حرية الحركة وحرية التعبير وحرية التظاهر لضمان استمرارية النظام الديمقراطي، لذلك فالدولة التي لا تعير هذه الحقيقة أهمية تواجه خطراً حقيقياً يهدد النظام الديمقراطي وكيانها نفسها، لأن عدم تطبيق القانون ضد نشاط المجموعات الفوضوية المعادية للديمقراطية يشجع هذه المجموعات “وهي بالمناسبة غير ديمقراطية ولا تحترم الحريات” على العمل من أجل إسقاط النظام. فعندما يكون هناك خطر حقيقي يهدد أمن الدولة وينشأ تضارباً بين الأمن والمبادئ الديمقراطية مثل حقوق الإنسان والمواطن، تسمح دساتير الدولة الديمقراطية الحد من بعض الحريات الأساسية في حالات الطوارئ والحروب وانتشار الفوضى لحماية أمن الدولة وضمان استمراريتها. وفي أوقات الطوارئ والحرب تفرض الدولة الديمقراطية الرقابة وتقيد الحرية الصحفية، وهذا مس ضروري، ولكن لا يجب أن يكون ذلك دائماً وإنما يكون استثناءً.
إن الأساس هو إرساء دولة القانون والمؤسسات، حيث يأتي احترام القانون في مقدمة الحياة السياسية السليمة التي لا مجال فيها للتهاون أو التنازل أو التسامح مع الفوضى والعبث والتسيب، ودولة المؤسسات تعني بالضرورة مرور كل القضايا الأساسية عبر المؤسسات وحدها، وأن الذي يريد أن يغير التشريع أو يؤثر في السياسات عليه أن يعمل من داخل المؤسسات للتأثير عليها. وهذا يتطلب إجماع السلطة والأحزاب والجماعات والجمعيات على حماية الديمقراطية بالالتزام بالقانون، في جميع الأحوال. وعليه فإنه مثلما لا يجوز للسلطة أن تلجأ إلى تجاوز القانون في التعامل مع الناس، فالأحرى بالناس وبالمؤسسات ألا يتجاوزوا القانون بل إن من واجب الجميع المحافظة على المكتسبات الأساسية للوطن، بما فيها المكتسبات السياسية والاقتصادية والعمرانية وغيرها، فلا يجوز لأحد أن يتجاوز في هذا المجال ولا يوجد أي مبرر يمكن أن يسمح لأحد أو جماعة أو حزب بالاعتداء على تلك المكتسبات والإضرار بأمن المواطنين والمقيمين وأملاكهم. ولذلك فإنه في غياب الشراكة الديمقراطية وتحمل القيادات الحزبية والدينية والمدنية مسؤولياتها الكاملة لحماية الديمقراطية والدفاع عنها، سواء ضد تجاوزات السلطة أو ضد تجاوزات الأفراد أو تجاوزات الجماعات، فإنه لن تكون هنالك ديمقراطية حقيقية على المدى البعيد. لأن الديمقراطية في بدايتها ونهايتها هي احترام للقانون. فالديمقراطية تعني في النهاية اقتناعا بجدواها ومحتواها وقبولاً بمتطلباتها ومقتضياتها، وليس القبول الشكلي بها لتحقيق مكتسبات ظرفية لأن الديمقراطية كمشروع متكامل يجب أن تتجاوز أشكال المفارقات والازدواجية، مثل رفض الديمقراطية في الممارسة وقبولها خطابياً، والحديث عن السلمية نظرياً وممارسة العنف والتحريض عملياً.