وسط ضجيج الفضائيات الإعلامي، وفي غمرة سيول قنوات التواصل الاجتماعي، وتحت وطأة طوفان البيانات والتصريحات التي عمت المنطقة العربية لما يزيد على عامين، ضاعت من برامج الجميع، دون أي استثناء، قيم المواطنة، وشوهت سلوكياتها، بعد أن غيبت، بوعي أو بدون وعي، مفاهيمها. ليست هناك من ضرورة للغوص عميقاً في تلك القيم، أو العودة بعيداً إلى التعريفات. فالمواطنة في كلمات بسيطة معدودة، هي كما يتفق عليها، معظم من يعالج موضوعاتها، “صفة المواطن الذي يتمتع بالحقوق ويلتزم بالواجبات التي يفرضها عليه انتماؤه إلى الوطن، فالمواطنة هي الشعور بالانتماء والولاء للوطن وللقيادة السياسية، وهي من أخطر التحديات التي تواجه بناء المجتمع الداخلي، وتؤثر في وحدته الوطنية، أمراض الطائفية وفيروسات القبلية وميكروبات المذهبية. ويجب على المواطن أياً كان انتماؤه الطائفي أن يكون ولاءه للوطن لا للقبيلة أو الحزب أو الطائفة أو التكتل السياسي الذي ينتمي له. فجميعها زائلة لا محالة، إلا الوطن فهو باق على مدى الدهر، وهذا لا يتحقق سوى من خلال إحساس الجميع بأن الدولة وليست الطائفة أو القبيلة هي مصدر الثواب والعقاب والمانحة والمانعة، الأمر الذي يعني الحد من هيمنة أي منها فكراً وسلوكاً على أفراد الشعب”.
في ضوء ذلك التعريف، تصبح المواطنة، لمن يريد أن يمارسها، جادة واسعة ذات اتجاهين متناسقين، تسير الحقوق في أحد جانبيه، وتوازيها في الاتجاه الآخر حركة الواجبات. حركة مرور هذين الاتجاهين، لابد لها أن تكون متناغمة، إن أريد لكليهما أن يصل إلى النهاية التي يبحث عنها. ومن ثم فإن أي اختلال في أي منهما من شأنه أن يعيق حركة المرور في تلك الجادة، ويحولها إلى حالة من الفوضى التي تحول دون وصول أعضاء أي من الفريقين إلى أهدافه. وهي أيضاً جناحا طير أحدهما الحقوق، والآخر الواجبات، وإصابة أحدهما يحول دون تحليق الطير في سمائه، ومن ثم يعجز هو الآخر عن الوصول إلى ما يبتغيه.
ولوصول المجتمعات العربية إلى هذه الحالة الراقية من الفهم الصحيح لقيم المواطنة، ربما من الأجدى، وفي هذه المرحلة بالذات الانطلاق مما هو ليس بالمواطنة في شيء، كما يتوهم البعض، أو يصر البعض الآخر على التشبث به.
فليست المواطنة حقوقا مجردة، ولا واجبات فقط، هي نسيج متكامل، تفرض على المواطن التقيد بأداء واجباته وعدم التقاعس عنها، وبالقدر ذاته التشبث بحقوقه وعدم التفريط فيها. كل ذلك يجري في نطاق الخضوع لقوانين ذلك المجتمع وتشريعاته، ومؤسساته الحاكمة. في ضوء ذلك يصبح التمسك بأي منهما دون الآخر، مصدر خلل يهدد أمن المجتمع، واستقراره، ومن ثم يحيل معادلة العقد الاجتماعي الضابطة لإيقاع حركة ذلك المجتمع، إلى أحجية يصعب حل ألغازها. فبقدر ما يتقمص المواطن تلك الحقوق، ولا يحيد عنها قيد أنملة، عليه أيضاً أن ينصاع للواجبات، ولا يخل بأي منها. أخطر ما في الأمر هنا، وهو الذي يجرد المواطنة من جوهرها، هو الانتقائية، فيستعين المواطن بالحقوق كي ينعم بها، ويهمل، عندما يريد، الواجبات، ويعمل على عدم أدائها. وبالمقابل تتوهم الدولة أن دورها يقتصر على سن قوانين الواجبات، فتهمل رعاية الحقوق والعناية بها.
ليست المواطنة، أيضاً، مجرد شعارات جوفاء يرفعها البعض، وتلوكها الألسنة وهي ترددها خلفه. فتلك الشعارات تفقد جدواها، ومن ثم فعاليتها، ما لم تكن مصحوبة ببرامج عملية، يؤمن بها أصحابها وقابلة للتطبيق في نطاق قيم المواطنة، وفي ظل مفاهيمها، هذا وإلا، تحولت تلك الشعارات إلى مادة تعبوية سلبية، من شأنها تمزيق نسيج روح المواطنة، وتشظية جسد المكونات المجتمعية التي تستمد قدرتها على الحياة من حيوية تلك الروح وحركتها. هنا لابد من الحذر عند صياغة تلك الشعارات، وضرورة صياغة البرامج التي تحتاجها، وبناء قنوات نقل تلك الشعارات من حالة الترديد الببغاوي، إلى البرامج الحية، ونقل تلك البرامج إلى حيز التنفيذ.
كذلك ليست المواطنة محض فوائد ملموسة للمواطن، وخدمات مقدمة من قبل الدولة، كما إنها ليست عوائد معنوية فقط، تثير الراحة في نفوس من يحلمون بها. إنها في حقيقة الأمر مزيج معقد بين الاثنين: المادي والمعنوي. حصة الاثنين ليستا متساويتين في كل المراحل، وتخضعا للظروف التي تسود المجتمع في كل مرحلة من مراحل تطوره. ففي مراحل معينة تطغى المعنوية على المادية، والعكس أيضاً صحيح في مراحل أخرى مختلفة. والسلطة الراشدة، وحدها القادرة على التوصل إلى المعادلة الصحيحة التي تحافظ على التوازن المطلوب بين تلك الحصتين في كل مرحلة، والمواطن الصالح وحده القادر على الاستجابة إيجابياً لذلك التوازن.
وبخلاف ما قد يتبادر إلى أذهان البعض منا، فمسؤولية غرس قيم المواطنة، وزرعها في نفوس المواطنين، ومن ثم تحويلها إلى سلوك المواطن، ليست مسؤولية مناطة بالدولة وحدها، رغم تحملها نسبة عالية من تلك المسؤولية، بقدر ما هي مسؤولية مشتركة تتضافر، من أجل ضمان اقتناع المواطن بها وبجدواها، جهود الدولة مع تلك التي تبذلها منظمات المجتمع المدني، بما فيها القوى السياسية، التي ينبغي أن تكون المواطنة، في صلب برامجها، وفي القلب من سلوكها اليومي.
ما لا يقل أهمية عن سيادة قيم المواطنة في سلوك المواطن، وتمسكه بمفاهيمها، هي المخاطر التي يستحضرها افتقاد مجتمع ما لتلك القيم، وغياب مفاهيمها من أذهان مواطنيه، وفي المقدمة منها، الأخطار الخارجية، حيث يصبح ذلك المجتمع منطقة رخوة من السهل اختراقها من قبل أية قوة خارجية متربصة به، أو يقع التدخل في شؤونه الداخلية، بشكل أو بآخر في نطاق تلك الاستراتيجية، ويخدم السياسة الخارجية لتلك الدولة.
المسألة هنا ليست رهناً بالنوايا، بقدر ما هي محصلة منطقية بين مناشدة الأوضاع الداخلية التي غابت عن مجتمعها قيم المواطنة، وضاعت مفاهيمها من جهة، واستراتيجية القوى الخارجية ومشروعاتها الإقليمية من جهة ثانية. وتفقد برامج الدفاع جدواها، ما لم تنعش قيم المواطنة، وتعزز مفاهيمها في صفوف القوى الاجتماعية والمنظمات السياسية التي تمثلها.
محصلة كل ذلك، أن قدرة أي من المجتمعات العربية على تحصين نفسه داخلياً، وحماية حدوده من أية أخطار خارجية، رهن إلى حد بعيد، بقدرة منظماته المجتمعية، وإدارات سلطته على التشبع بقيم المواطنة، والتصدي، بشكل حقيقي، للدفاع عنها، بعد زرعها عميقاً في تربة ذلك المجتمع. وإذا ما عجزت تلك القوى عن تحقيق ذلك، فهي، شاءت أم أبت، وعت ذلك أم غاب عن بالها، تصبح لقمة سائغة لاضطرابات داخلية، وغنيمة سهلة للأطماع الخارجية.
من هنا ربما آن الأوان كي نعيد النظر لمفاهيم المواطنة السائدة، من أجل تفعيلها، وفق رؤية استراتيجية، ومن منطلقات صحيحة راسخة، قادرة على الصمود في وجه العواصف التي ستهب عليها، فهناك من لديه مصلحة مباشرة في التفريط في قيم المواطنة وتغييب مفاهيمها