باغتت واشنطن المجتمع الدولي بقرار صادر عن الإدارة الأمريكية تزمع بموجبه فرض “عقوبات جديدة على حزب الله اللبناني، بتهمة تقديم الدعم للحكومة السورية، وحمّلته مسؤولية المساهمة في استمرار العنف الذي يقوم به نظام الرئيس بشار الأسد، من خلال توفير الدعم اللوجستي والتدريب والاستشارات لعناصره، بإشراف أمينه العام حسن نصرالله”.
وبرر البيان الصادر عن وزارة الخزينة الأمريكية ذلك كون “حزب الله خالف قرار الحظر المفروض في واشنطن على نشاطات الحكومة السورية والجهات الداعمة لها التي تنتهك حقوق الشعب السوري، معتبراً أن العقوبات تظهر الدور الأساسي الذي يقوم به حزب الله بدعم عنف النظام المستمر ضد شعبه.” ولم ينس البيان أن يغمز من قناة المشاركة الإيرانية، من خلال تأكيده على أن “حزب الله ينسق مساعداته لسوريا مع (قوة القدس) التابعة للحرس الثوري الإيراني، مشيراً إلى أن قائد تلك القوة، وهو الجنرال الإيراني قاسم سليماني، يخضع بدوره لعقوبات أمريكية للسبب عينه”.
ليست هناك حاجة لأي شكل من أشكال التحليل الاستخباراتي ولا أدنى درجة من درجات الذكاء للتدليل على العلاقة الاستراتيجية التي تحكم مثلث دمشق - طهران - جنوب لبنان، فهي مكشوفة باعتراف الأطراف الثلاثة، وعلنية سواء من حيث الإفصاح السياسي في وسائل الإعلام، أو الدعم اللوجستي على أرض الواقع. من هنا لم تكتشف واشنطن، كما يقول المثل الدارج - البارود، في تعريتها لتلك العلاقة. لذا لابد أن يكون هناك أمر ما قد استجد على نحو طارئ دفع الولايات المتحدة إلى الخروج بهذا القرار، القريب من استعراض القوة والمهارات الذي يمارسه أبطال أفلام رعاة البقر الأمريكية. لكن قبل الدخول في الأسباب الكامنة وراء القرار، ربما هناك حاجة للإشارة ولو بشكل مكثف ومقتضب إلى المدلولات التي ستتعيننا على وضع أصابعنا على تلك الأسباب.
أول ما يدل عليه ذلك القرار هو أن استمرار “الحالة السورية” دون قدرة أي من الأطراف على حسم الصراع، وعلى نحو جلي لصالحه لم يعد يصب الماء في طواحين المشروعات الأمريكية الشرق أوسطية، بل ربما أيضا تجاوز التوقعات الأمريكية، وأدى إلى تأجيل العديد من تلك المشروعات الاستراتيجية، وفي القلب منها الحلول المتعلقة بالصراع العربي - الإسرائيلي الذي لا يمكن المضي في مشروعات تسويته بعيداً عن حل جذري قابل للتنفيذ لمشكلة هضبة الجولان السورية التي لا تزال تحت الاحتلال الإسرائيلي.
ثاني ما يدل عليه ذلك القرار هو أن وصول “الحالة السورية” إلى مستوى بالغ من التعقيد والتداخل بين أطراف الصراعات الضالعة فيها، إلى درجة فاقت القدرات الأمريكية أوصلت واشنطن إلى خيارات متضاربة، شلت حركتها، وجعلتها غير قادرة على التدخل، بشكل مباشر أوغير مباشر كي تحسم الأمور لصالحها ففضلت تركيز هجماتها على الأطراف، مثل محاربة حزب الله بدلاً من التوجه نحو القلب، وتوجيه ضرباتها إلى مؤسسات نظام الأسد التي يبدو أنها لاتزال قادرة على الصمود ولو لفترة قصيرة، مما يرهق واشنطن ويجبرها على إعادة خلط أوراقها من جديد، وهو أمر لم يعد لها طاقة به وغير قادرة على الاستمرار في تحمل نتائجه.
في ضوء تلك المدلولات يمكن العودة للأسباب التي يقف في المقدمة منها أن الولايات المتحدة قد قررت حسم الصراع، وبوتيرة أسرع مما تسير عليه الأمور الآن، في سوريا لصالح مشروعها الشرق الأوسطي، والذي ربما تكتنفه بعض المخاطر، وشيء من المغامرة المحسوبة العواقب من وجهة نظر واشنطن. ومن ثم ولتقليص تلك المخاطر فقد يكون توجيه ضربة عسكرية موجعة لحزب الله يجرد بشار الأسد من بعض عناصر قوته من جانب ويدفعه نحو التفكير في المساومة من جانب آخر، بما في ذلك الاستقالة ومغادرة البلاد، وكلا الأمرين يدفع بالمشروع الأمريكي خطوات نحو الأمام، ويرغم المحور الصيني - الروسي على إعادة التفكير في العلاقة التي تحكم سياساتهما الشرق أوسطية من خلال تحالفهما القائم مع النظام السوري الحالي.
يلي ذلك أن يكون التهديد، وفيما بعد التنفيذ بشكل رئيس، بمثابة التمرين الذي يحمل في ثناياه رسالة واضحة لطهران كي تعيد النظر في موقفها من مسألتين؛ الملف النووي والتدخل المباشر أم المبطن في شؤون بعض الدول الشرق أوسطية مثل العراق وجنوب لبنان ودول أخرى، وهو أمر لم يعد في وسع واشنطن القبول به كونه يهز صورتها التي تريد أن تحتفظ بها في أذهان حلفائها في المنطقة من جانب، ويرهقها سياسياً على المستوى الدولي من جانب آخر. وكلا الأمرين يعطلان آليات تنفيذها لمشروعاتها الشرق أوسطية.
من هنا، من المتوقع أن نشهد سيناريو، ربما تشوبه بعض التعديلات الناجمة عما يطرأ على أرض الواقع، يقوم أساساً على أن تبادر إسرائيل بتوجيه ضربة سريعة قاصمة لتواجد العسكري لحزب الله في جنوب لبنان، تحقق بها أهدافاً مشتركة بين مشروعها هي والمشروع الأمريكي في المنطقة، حيث تضع حداً للإزعاجات التي لم تعد قادرة على القبول بها، التي يسببها لها حزب الله في شمال إسرائيل، والتي يجبرها لتعزيز حضوره السياسي في الساحة اللبنانية وترغمه في الوقت ذاته على حشد قواته في الساحة اللبنانية، وحصر اهتماماته فيها، ومن ثم تقليص الدعم الذي يقدمه لمحور التحالف الثلاثي دمشق - طهران - جنوب لبنان، مما يتيح لواشنطن هامشاً أوسع يمدها بعناصر جديدة للمناورة لصالح مشروعاتها الشرق أوسطية. أهمية هذا السيناريو، فيما لو أخذت به واشنطن، أنه في حال نجاحه سيمهد الطريق أمام مشروعات شرق أوسطية أخرى، وفي حال فشله لن يسبب أي إحراج لواشنطن ولا يضع عليها أي تبعات سياسية. أما تل أبيب فلها تجارب كثيرة في هذا الاتجاه اكتسبتها خلال مشاركتها في العدوان الثلاثي على مصر في الخمسينات من القرن الماضي، وأغنتها حروب أخرى خاضتها منفردة مثل غزو لبنان المتكرر في مارس 1978، ويونيو 1982 من القرن الماضي، يضاف لها تجربتها الخاصة مع حزب الله ذاته في يوليو 2007.
هناك سيناريوهات أخرى محتملة، لكنها كما يبدو من القرار تتمحور حول توجيه ضربة سريعة وخاطفة لحزب الله ليس المقصود بها إنهاء وجوده، بل تقتصر على تحجيم تدخلاته التي لم تعد مقبولة من وجهة نظر الأمريكان، وتكون في الوقت ذاته بمثابة الرسالة المباشرة الموجهة لإيران، والإجراء العملي الملموس على الأراضي السورية.
الشيء الذي غاب عن ذهن من صاغوا القرار الأمريكي هو أن حزب الله مهما بلغ حجم حضوره الإعلامي يبقى عاملاً محدود التأثير في معادلة الصراعات المحتدمة في الشرق الأوسط، ومن ثم فتوجيه ضربة له، مهما كانت الآلام التي يمكن أن تسببها له، لكنها لن تكون كافية لتحقيق بعض الأحلام الواهمة المريضة الساكنة في أذهان دوائر صنع القرار في واشنطن، ذلك أن الأمور أكثر تعقيداً من ذلك، وبحاجة إلى ذهنية أغنى خبرة من سياسات راعي البقر الأمريكي التي لم تتوقف واشنطن عن ممارستها رغم ذهاب بوش الابن وتولي أوباما كرسي الحكم. فليس بضرب حزب الله تحل الأمور.