يجري نقاش محتد منذ سنوات حول مبدأ ومفهوم السيادة الوطنية بين السياسيين والحقوقيين ومؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الدولية المشتركة، يميل في نتائجه النهائية إلى نوع من النفاق والازدواجية؛ فلا سيادة في الحقيقة هي للأقوياء عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، وتتدرج درجاتها بعد ذلك بحسب حجم القوة السياسية والمادية والعسكرية، وتتدرج بعد ذلك تلك السيادة بحسب حجم تلك القوة؛ فهنالك دول لها سيادة مطلقة على العالم وعلى مجلس الأمن وعلى القرارات الدولية وعلى البحار والمحيطات والأجواء، تفعل ما تشاء وتستخدم الفيتو في وجه كل ما يعترض مصالحها، وهنالك دولة منتهكة السيادة بشكل كامل (مثل جمهوريات الموز) تشكل مجرد حدائق خلفية لدول أخرى.
لقد قامت العلاقات الدولية على مبدأ احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها وأن هذا المبدأ شكل أحد أهم الركائز القانونية التي أقرّها ميثاق الأمم المتحدة، ولكن؛ ومع ذلك سبق للجمعية العامة للأمم المتحدة أن أصدرت عدة قرارات لاعتماد نظام عالمي إنساني جديد يهدف إلى تقديم المساعدات للأقليات المضطهدة، وقد تبع ذلك قرارات عدة لمجلس الأمن بإرسال قوات إلى بعض المناطق الساخنة لحفظ السلام والقيام بمهمات إنسانية، بما في ذلك الدخول إلى إقليم (تيمور الشرقية) واقتطاعه من الدولة الأم، بهدف وقف انتهاكات حقوق الإنسان هناك، وكان ذلك قراراً خطيراً، لما ترتبت عليه من آثار عديدة تركت بصماتها على العلاقات الدولية، ومنها ما يتعلق بانتهاك سيادة الدول من خلال تشريع التدخلات المباشرة العسكرية والسياسية، وعودة الوصايا بأشكالها القديمة والجديدة، وقد رأينا بعد ذلك الترجمة العملية من خلال عودة الوصاية في كل من أفغانستان والعراق، بالإضافة إلى المحاولات المحمومة لفرض الوصاية على إقليم دارفور السوداني.. وغيره من المناطق الأخرى.
ولعلّ هذا التحول في اتجاه الحد من السيادة الوطنية قد جاء نتيجة تداعيات التفتّح والاندماج، التي شهدها العالم إثر انهيار المنظومة الاشتراكية وبروز كيانات وتجمّعات إقليمية، وترسّخ مسار العولمة بما أتاحه من تحكّم الشركات المتعدّدة الجنسيات والهيئات المالية الدولية في اقتصاديات الشعوب والتشكيك في الأدوار التقليدية للدولة بعد تراجع سلطاتها على الصعيد الوطني، اتساع نطاق انتهاك حدود الدولة الاقتصادية والسياسية والمساس بهويتها الثقافية الوطنية، وخضوعها لضغوطات من الهيئات الأممية والدولية، حيث بدا واضحاً أن السيادة الوطنية هي على رأس العناصر المستهدفة في مناخات التحوّلات العالمية الجديدة التي أسقطت معاني السيادة الاقتصادية والثقافية لتسقطها في تجارب أخرى على شاكلة التجربة العراقية بطريقة فجة وعنيفة في معانيها السياسية بل والحضارية والوجودية. كل ذلك باسم ديانة عالمية جديدة هي الديمقراطية الليبرالية المحفوفة بكل صنوف الشروط والتلونات الباحثة في مجملها عن الصيغة الأمثل لحماية مصالح رأس المال والمجمعات الصناعية والعسكرية، كما قد تبرز أحياناً في صيغ الإصلاح السياسي المفروض من الخارج ، أو عبر ما بات يسمى بالحرب ضد الإرهاب، بما يفتح المجال أمام مسارات غامضة مطلة على المجهول والتشكيك في قيم الديمقراطية والحداثة والتقدّم..
ولعل الإنجاز المحلي على هذا الصعيد في مثل هذه المناخات الصعبة يتمثل في ثبات الرؤية الوطنية التي وضعت كل أهداف وممارسات الإصلاح السياسي رهينة الجهد الوطني الداخلي الذي لا تقفز على المراحل ولا تعنيه أجندات الخارج المفضوحة في ارتباطاتها بلعبة المصالح، بل تركز المسار على رصد حاجيات الداخل الوطني وموازنة خطوات الإصلاح السياسي مع جهود التطوير الاقتصادي والاجتماعي في مسار واحد لا يفصل بين أبعاد عملية الإصلاح، رغم بطء الحركة في هذا الاتجاه والصعوبات والتحديات التي باتت معروفة.
.. وللحديث صلة