آخر مرة التقيت فيها فقيدنا الراحل ناجي علوش، الذي كنا نناديه بـ “أبو إبراهيم”، كان قبل خروج القوات الفلسطينية من بيروت عام 1982، وكان اللقاء حزيناً وتسيطر عليه أجواء الوداع المجهول الأفق، لكن أول مرة اجتمعت فيها معه شخصياً كانت في العام 1975 في مكتبة “دار الطليعة” بالقرب مما كنا نسميه “دوار الكولا”، في حي الجامعة العربية في بيروت، معقل الثورة الفلسطينية ومن كانت تأويهم من قيادات المعارضة العربية ممن لفظتهم حكومات بلدانهم. لكن أول لقاء فكري معه يعود إلى أواخر الستينات عبر مجموعة من كتاباته المبكرة حينها مثل: “الثوري العربي المعاصر”، و«الثورة والجماهير 1948 - 1960”، و«في سبيل حركة تحرير ثورية شاملة”.
سألت عنه قبل سنوات صديقاً مشتركاً، فأجابني أنه طريح الفرش، نصف مقعد، فتحاشيت زيارته، حرصاً مني على أن أحتفظ بصورته التي ماتزال في ذهني عنه عندما كان في أوج عطائه بكل الدينامية التي كان يتمتع بها، والحيوية التي يتمسك بها، والابتسامة التي لا تفارق شفتيه، حتى عندما يحتدم النقاش وترتفع حرارته حول موضوعات متعددة تمتد من الخلاف الصيني - السوفياتي إلى الموقف من “الدول العربية الجمهورية” المصنفة حينها “تقدمية”. لسبب خفي ما كان النقاش يدور ويلف كي يعود حول نقطتين هما؛ القضية الفلسطينية والوحدة العربية. ويبدو أن “إبو إبراهيم”، رحمه الله، والذي كان المحرك الذي يدير تلك النقاشات، وهو الذي كان أيضاً غالبا الممسك بدفة الحوار يوجه الجميع بسلالة ودون إرغام نحو ذلك الاتجاه.
حرصي على الاحتفاظ بتلك الصورة وتشبثي بعدم تشويهها مارسته أيضاً عندما فتكت أعباء النضال بجسد قائد عربي آخر هو فقيدنا، تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنانه، عبدالرحمن النعيمي “أبو أمل”، الذي رفضت أن تفارق صورته وهو في أوج شبابه ناظري، فقد كان هو الآخر كتلة نادرة مشتعلة من النشاط السياسي الذي كرس حياته من أجله، وكان ضحية تحمله مشاقاً لا طاقة لبشر بها. لايزال النعيمي في ذهني هو عبدالرحمن المتأبط أحد الكتب السياسية باحثاً عن مناضل يضمه إلى صفوف التنظيم، دون أن تفارق الابتسامة المشرقة شفتيه المتفائلتين.
تريثت بشكل متعمد قبل أن أكتب رثائي الخاص بفقيدنا جميعاً، وليس الفلسطينيين فحسب، “أبو إبراهيم”، والسبب يعود أساساً لرغبتي في مراجعة ما سيكتب عنه وما سيرويه زملاء مسيرته النضالية حوله، وإن كان هناك ما يمكنني أن أضيفه دون أن أكرر ما جاء في تلك الشهادات الغنية التي وجدت أن جل ما جاء فيها، وهو متوقع ومنطقي تناول الحديث عن فقيدنا “أبو إبراهيم” الذي كانت سيرته النضالية، وخلفيته الأدبية الإبداعية تدفع من سيرثيه إلى الكتابة حولها. غابت عن تلك الكتابات التي سمحت لي ظروفي بمطالعتها، أو ربما ضاعت في ثنايا ما كُتب نقطتان: الأولى، الجانب الشخصي الذي كان يحكم سلوك “أبو إبراهيم”، وهو جانب حتى وإن بدا صغيراً أمام سلوكه النضالي لكنه مهم لمن يريد أن يقتدي بطوال القامة من القيادات العربية المعاصرة، والثاني هي كيفية ضمان بقاء “أبو إبراهيم” بيننا رغم مغادرته لنا في مرحلة نحن في أمس الحاجة لأمثاله، وسط طوفان التحولات التي تشهدها المنطقة العربية اليوم، حيث تعج الساحة السياسية اليوم بالعديد ممن اغتصبوا قيادة العمل السياسي العربي، أو آلت إليهم دون أن يستحقوها بعد أن افتقدنا الكثير منهم في خضم المسيرة النضالية، وهو أمر لا ينطبق على الجميع لكنه ظاهرة من الخطأ القفز فوقها أو التعامي عنها.
كان “أبو إبراهيم” حريصاً على أن يميز بين علاقاته الشخصية الإنسانية وخلافاته السياسية، لذلك فقد كانت تربطه بخصومه السياسيين، على الأقل في المحيط العربي، علاقات شخصية حميمة احتفظ الطرفان بها، حتى بعد الفراق الكبير الذي فرضه على معظم القوى السياسية المعارضة الخروج الفلسطيني من بيروت في أغسطس 1982، وتشتت المعارضة العربية بعد أن فقدت العاصمة العربية التي كانت تقبل إيواءها بقرار ذاتي ودون أية شروط مسبقة ولا مضايقات لاحقة. يغمر ذلك التمييز دفء ملموس يحيط به “أبو إبراهيم” من تربطه بهم علاقات مشتركة؛ نضالية وشخصية، وكانت اللقاءات السياسية التي تتم في منزله أو في مكاتب “دار الطليعة” الخلفية الأرض الخصبة التي نمت فيها تلك العلاقات الحميمة التي نتحدث عنها وأينعت ثمارها. إذ كان يعقب الحوارات الساخنة جلسات يتبادل فيها الحاضرون مشكلاتهم الشخصية من عوز مالي أو حاجة لمسكن أمين يحمي المناضلين ويخفيهم عن عيون السوء من رجال المخابرات العربية التي كانت تتصيدهم. ولم يكن “أبو إبراهيم” يتردد في تعريض حياته للخطر طالما أسهم ذلك في إزالة عبء عن كاهل أولئك المناضلين. وكان ذلك يضطره في حالات كثيرة إلى تجاوز بعض الحدود التنظيمية التي كانت تقيده، ويسير في طرقات ملتوية تحقق له ما يريد دون التفريط في قيمه النضالية الأصيلة التي يتمسك بها وبدرجة عالية من التقديس.
النقطة الثانية، وهي الوسيلة التي تحقق ضمان أن يبقى “أبو إبراهيم” بيننا هي تأسيس وقف يحفظ ذكراه ويجددها، وهي مسؤولية مشتركة تقع على عاتق مجموعة من الأطراف والجهات هي؛ عائلة فقيدنا الكبير، وأصدقاء النضال وهم كثر، والسلطة الفلسطينية أو إحدى مؤسساتها التي ناضل في صفوفها “أبو إبراهيم”.
هذا الوقف أو المؤسسة ينبغي أن تؤمن عناصر استمرارها وتطورها ونبل أهدافها قبل الإعلان عنها. إذ لا بد أن يتوافر لها ما تحتاجه كي تصون مقام “أبو إبراهيم”، وتحتفظ بالذكرى الطيبة عنه والتي يستحقها.
كثيرة هي القضايا التي يمكن أن تغطيها أهداف تلك المؤسسة وأنشطتها، يعينها على ذلك شخصية فقيدنا الراحل وتعدد أنشطته التي تمتد من الجانب الإبداعي؛ فهو كان شاعراً وكاتباً قبل أن يكون ثائراً متمرداً، ومن ثم فيمكن أن تكون هناك “جائزة ناجي علوش الإبداعية”، لكن هناك ما هو أهم من ذلك وهو البعد الفلسطيني - العربي في فكر ناجي، وهو الآخر بحاجة إلى نشاط يكرس هذ العلاقة في الفكر العربي، ويعمل على ألا تنفصم عراها، خصوصاً في ذهن الأجيال الشابة الحالية ممن لم تعش ذلك الترابط بين القضايا العربة والقضية الفسطينية. ونحذر هنا من الاستعجال، إذ لابد أن تأتي هذه المؤسسة كي تشكل علماً مميزاً، كما كان “أبو إبراهيم” مفكراً مميزاً، وقائداً فذاً، خسرناه جسدياً، ولا يمكن أن نسمح لأنفسنا أن نفقده فكرياً وسياسياً.
رحم الله ناجي وأسكنه فسيح جنانه، وألهمنا جميعاً، كأسرته الكبيرة، وأهله وذويه الصبر والسلوان.