صور متلاحقة تعدو سريعاً كي تحل الواحدة منها مكان الأخرى، دون أن تمحي الثانية الأولى من ذهن قارئ رواية “الأصولي المتردد” للأديب الباكستاني الأصل، الإنجليزي القلم “محسن حامد”. ولا يعود ذلك للنص الأجنبي، الذي لم أطلع عليه، وإنما في إسلوب مترجم لم يذكر اسمه في النسخة العربية التي اكتفى ناشرها العربي “شركة المطبوعات للتوزيع والنشر”، بالإشارة إلى أنها من عمل فريق في “آلاء للترجمة”، أم أنها كانت ترجمة آلية، قام “حبيب يونس”، في كلتا الحالتين، بمراجعتها، فجاء إيقاع النسخة العربية، كما أخمن، متسقاً مع الأصل الإنجليزي، كي تحافظ النسخة العربية على جمال الأسلوب، وسرعة الإيقاع، وتسارع الأحداث. الجميل في هذا العمل الإبداعي المحصور في 171 صفحة من القطع المتوسط، أنه يبيح للقارئ، وفقاً لمخيلته وربما أيضاً لذخيرته الثقافية/السياسية أن يقرأ النص، من ثلاث زوايا مختلفة، ليست متباعدة، لكنها ليست متطابقة أيضاً، وإنما تتبأر في كل القراءات كي يسيطر عليها استنتاج لا يمكن أن تخطئه مخيلة القارئ، وهو أن أحداث الرواية تفصح في نهاية الأمر عن صراع حضاري بين الشرق والغرب. وفي القلب من هذا الصراع الحضاري تبرز المنطقة العربية، بتركيبتها السكانية، وموقعها الجغرافي، وسلوكها السياسي، كأحد المكونات الرئيسة لهذا الصراع، دون استبعاد شعوب أخرى مثل باكستان، التي ينحدر من صلبها الكاتب، من الدخول في هذا الصراع، أو التأثر بتداعياته وتشظياتها. الزاوية الأولى، الغاية في البساطة، والتي حرصت ريشة الكاتب أن تحيك برشاقة متناهية صورها كي تأتي تكويناتها وطبيعتها متناسبة مع طرفي الصراع، وهما شخصية الطالب الباكستاني الموهوب، عند قدومه إلى الولايات المتحدة كي يلتحق بجامعة برينستن، ولاحقاً يتم اختياره بين مجموعة من المتنافسين، من بينهم عدد من بلاد الغرب بما فيها الولايات المتحدة، كي يحظى بوظيفة في إحدى الشركات الأمريكية (أندرود سامسون) التي لا ينال شرف الانتساب لدائرة موظفيها، سوى النخب المتفوقة من الجامعات الأمريكية العريقة من أمثال برنستن، وستانفورد، وهارفرد. يروي حامد قسماً من سيرته الذاتية هنا، كطالب، وفيما بعد موظف، تسيطر عليه قيم الحضارة الشرقية، وتشده بقوة، تكاد أن تشيد بينه وبين من يتعامل معها من أفراد ومؤسسات جدراناً عالية مسيجة وسميكة من الممنوعات التي لا تكف عن محاولات انتزاعه منهم، لكنها، أي تلك القيم، التي يحرص قلم “حامد” على عدم التفريط بها، إلى درجة تقترب إلى حالة قدسية تشبه الطقوس الصوفية. يصل هذا الصراع أوجه، في علاقته الأولى بـ«إيريكا”ـ وهي أول فتاة تلتقي عيناه بها ويستلطفها، تتجسد في أيريكا كل كبرياء الحضارة الغربية، كما كان يراها الطالب الشرقي، قبل أن يفيق من صدمته الحضارية الأولى، فجمالها أخاذ، وسلوكها متوازن لكنه مشوب بنزعة استعلائية لا تستطيع أن تخفيها جهود إيريكا المتواصلة كي تجعل من “حامد” نداً مكافئاً لها. يعترف “حامد” في نهاية الأمر بفشله في تطويع إيريكا، ويضطر كي يقيم أول علاقة “جنسية” معها أن يتقمص شخصية حبيبها “كريس” الذي فقدته في مرحلة مبكرة من علاقتهما. هنا يحاول “حامد” بوعي وبإدراك كامل أن يسجل اعترافاً واضحاً بالمساومة الفردية ممن ينتمي للحضارة الشرقية أمام طغيان قيم الحضارة الغربية السائدة، دون أن ينسى الإشارة إلى استمرار محاولة التصدي لها، من خلال تسجيل تطور علاقته مع أيريكا. ينتقل الصراع من جوانبه الشخصية كي يستلهم أحداث الرواية من زاويتها الثانية، وهي السياسية، والتي هي الأخرى ذات منطلقات حضارية أيضاً، فيربط “حامد” بين الجاليات المسلمة، على وجه الخصوص منها ذات الأصول العربية، وبين المجتمع الأمريكي، ليس الأفراد منه، وإنما المؤسسات أيضاً، إثر عمليات برجي مركز التجارة العالمية في نيويورك، في سبتمبر 2001، وينجح في إبراز بقع الحقد الحضاري السوداء التي لم تستطع أن تخفيها كل المساحات الجمالية الأخرى التي جاهدت، ولاتزال، مراكز إدارة الصراعات الحضارية الغربية أن تكرسها في أذهان المجتمعات الشرقية. هنا يجسد “حامد” الصراع الحضاري المتضاد، في امتداده السياسي، بشكل متصاعد في ثنايا عواطفه هو، بين انبهاره الشخصي بالحضارة الغربية من خلال مؤسساتها العلمية العريقة، ومدنها الحديثة الغاية في التنظيم، وبين سلوك مكوناتها (الأفراد والإدارات التي يسيرونها) القائم على تلك النظرة الاستعلائية الممزوجة بحقد دفين على كل من لا ينتمي لتلك الحضارة، التي لم تستطع أن تصمد أمام أول امتحان حضاري حقيقي لها، فكشرت عن أنيابها، وفقدت إنسانيتها، فأبرزت معالم حقد دفين مختزن، تفجر في أداء انتقامي لم تقف حدوده في من نفذ تلك العمليات التي يصنفها “حامد” بوضوح أنها إرهابية، وإنما تتسع دوائرها كي تشمل شعوباً بكاملها، لم ترتكب أي ذنب سوى أنها تنحدر من صلب تلك الحضارة الشرقية التي زج بها في صراع لم تدعو له، ولم تدافع عنه، بل ورفضت الدخول فيه، ما لم تجر إليه، وترغم على خوض غمار حروبه. لا يكف حامد هنا بين إجراء مقارنات حضارية بين مدن تنتمي كل منها إلى واحدة من تلك الحضارتين، مثل نيويورك المنتمية للحضارة الغربية، بمبانيها الباسقة، ووتيرة سلوكها السريع، وبين مدينة مثل لاهور، بأبنيتها المتواضعة، وإيقاع أهلها البطيء، دون أن ينسى أن يفصح عن مكامن الجمال والقبح في كلتا المدينتين، لكن مع إعجاب حاضر بالأولى، وانشداد تاريخي، لا يحاول أن يخفيه، أو يموهه، للثانية. وبعد أن يمزج “حامد”، برشاقة أدبية غاية في العمق الحضاري والقدرة الإبداعية التصويرية تنجح، دون أية محاولات قسرية، في الانتقال بالقارئ من الدائرتين الحضارتين الأضيق إلى الثالثة الأكثر شمولاً، وهي الصراع الحضاري في امتداداته التاريخية، وجذوره الثقافية. هنا تطفو على السطح، فلا تقف الأمور عند المباني، إنما تتجاوزها، بل وتقفز حتى فوق المؤسسات، بما فيها تلك الأكاديمية العريقة، كي تصل بالقارئ، إلى السلوك اليومي لمواطني الحضارتين والمقاييس التي تحاول الحضارة الغربية أن تفرضها، وكأنها ضرب من المسلمات التي يفقد الفرد إنسانيته، مجرد انزياحه مسافات قصيرة عنها. يصل الأمر إلى المستويات الحضارية الدنيا كي يشمل الملبس والمأكل لكنه يعود كي يعلو ويتسع فيشمل العلاقات الإنسانية بما فيها تلك التي يمكن أن تقوم بين ذكر وأنثى. هنا يبرز “حامد” بوضوح عنجهية الحضارة الغربية وتعاليها على الحضارات الأخرى. يقول “حامد” في نهاية “الأصولي المتردد” بوضوح جلي، ما حاول أن يدفع القارئ أن يستنتجه بشكل مستقل في كل صفحات الرواية، وهو أن مقاييس المكانة التي يمكن أن يحتلها الفرد في دوائر صنع القرار المخملية في المجتمع الأمريكي، رهن بتلقيه العلوم في مجموعة مختارة من الجامعات الأمريكية التي وحدها كفيلة بفتح أبواب تلك المجتمعات أمامه، بعد أن تزيل من طريقه الكثير من العقبات التي يمكن أن تحول بينه وبين الوصول لتلك الدوائر، ثم تزداد فرص النجاح، متى ما تمكن من الالتحاق بوظيفة، هي الأخرى محصورة في عدد من الشركات المرتبطة بشكل أو بآخر بتلك الجامعات النخبوية. أجمل ما في الرواية، أن كاتبها، يترك لقارئه، من كلتا الحضارتين على حد سواء، مساحة واسعة من حرية اتخاذ قراراه الشخصي، إلى أي من منهما يريد الانتماء. تفاصيل صور حقيقية نقلها “حامد” بصدق ومن معايشة يومية، تنطلق من أحاسيس واقعية صادقة، تستحق القراءة المتمعنة القائمة على رؤية حضارية للرواية دون التفريط في جماليتها الإبداعية