ضمن برنامج تعزيز ثقافة الديمقراطية الذي ينظمه معهد التنمية السياسية البحريني تم عقد ورشة عمل بعنوان “الحوار السياسي والتواصل مع الآخر”، تحدث فيها الدكتور عمار علي حسن، وهو كاتب وباحث في علم الاجتماع السياسي من جمهورية مصر العربية. وتركز موضوع الورشة في كيفية قبول الآخر والتعايش معه ضمن إطار علاقة اجتماعية سياسية في المجتمع. وعلينا أن نتساءل في البداية؛ مَن هو الآخر؟ الآخر باختصار ليس هو أنا؛ قد يكون الآخر هو الأب، الأخ، الزوج، الزوجة، الابن، البنت، الجار، المواطن الآخر أو الزميل في الوظيفة. قد يكون الآخر ثقافة الآخرين، الحضارة، الدين، المذهب، الفكر، الحزب، الجمعية السياسية. وقد يكون الآخر القبيلة، الدولة، الطائفة، الحاكم أو المسؤول، الهويات الثقافية والسياسية. والآخر قد يكون المواطن الغربي أو الشرقي الذي يحمل كلٌ منهما نظرة مغايرة عن الآخر. ولكن قد يكون الآخر هو الذات. وهي الذات الإنسانية، خاصة إذا كان الشخص ذا شخصيتين (شريرة وخيرة) أو أنه يُعاني من مرض (انفصام الشخصية). مهما كان هذا الآخر فيجب على الآخر التعامل معه والتعايش معه ضمن معايير اجتماعية وإنسانية تعترف بوجوده وأنه قادر مثله أن يُساهم ويُشارك في التنمية الحياتية الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وفكرة قبول الآخر ظهرت مع فكرة بزوغ العقد الاجتماعي في أوروبا، والعقد الاجتماعي من مصطلحات الفكر الإنساني القديم (سقراط وأفلاطون 400 ق. م) وتبلور بشكل نظرية علمية على يد مجموعة من علماء الاجتماع مثل توماس هوبز، جون لوك، جان جاك روسو، لتظهر في ما بعد ذلك انعكاساته كرمز مُحرك لأحداث سياسية غيرت مجرى التاريخ مثل الثورة الفرنسية 1789م. إن قيمة الحرية والرأي الآخر لا تظهر قيمتها في ما نحمله من رأي أو فكرة، ولن يكون لها محل إن لم نحترم رأي الآخر وفكرته حتى ولم يتفق معنا في رأيه أو عارضتنا فكرته، فالرأي الآخر هو الصورة الأخرى للمجتمع الذي يعيش فيه جمعٌ من البشر. وهذا المجتمع قد يتسع أو يضيق بحجم اعتراف الآخر بالآخر، وهذا ما جسده شعار الإمام الشافعي (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيُ غيري خطأ يحتمل الصواب)، وهذا القول الخالد يُمثل قمة التمتع بالحرية الحقيقية والمعايشة الخلاقة مع الرأي المخالف. وأن عدم الاتفاق مع الرأي الآخر لا يعطينا ذريعة الخوف منه أو تجنبه أو معاداته أو إقصائه وتهميشه. وفي موقع آخر يقول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام (ما جادلت جاهلاً إلا وغلبني وما جادلت عالماً إلا غلبته)، وهذا القول يؤكد لنا حق الآخرين في الاستماع الجيد إليهم ومناقشتهم في رأيهم، وتقبل رأيهم إذا ما ثبت صحته والاعتراف بصوابه، أما العناد ضد الآخر فهو مرفوض ولا يجوز صد العقل عن الاستماع إليه، ولا يحق لنا أن ننكر صحته إذا تبين لنا ذلك. وهو كما نعلم هو أمر إلهي.. وذلك في قوله تبارك وتعالى (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)، فهل هناك أصدقُ من ذلك؟ نحن أهل الشرق قد نحتاج إلى الشجاعة والجرأة لنتقبل الرأي الآخر، وكما يعلم الجميع فنحن نملك خاصية تتمثل في صعوبة التفاهم مع الآخر وتقبل النقد منه، ونحارب بشدة مَن يُخالفنا في الرأي ولا نقر له وجوداً إذا رفض رأينا وقولنا؛ وهذا الحس يَحمل مفهوماً مُناهضاً للتعددية الفكرية والسياسية ولا ينتمي إلى المنهج الديمقراطي السليم. فكثير من البرامج السياسية في الفضائيات العربية تخلق مواجهات شرسة وحامية الوطيس بين شخصين متناقضين والمذيع المُقدم للبرنامج يشاكسهما معاً ويعمل جاهداً على ألا يتفقا أبداً حتى نهاية البرنامج. وهذا يرجع إلى أسباب عدة (عدم التفاهم والاختلاف الدائم مع الرأي الآخر) نذكر منها: • الطبيعة العاطفية الحارة التي تغلب على الشخصية العربية والميل الغالب إلى رأي الذات. • طبيعة الأنظمة العربية من ملكية وجمهورية الحاكمة بتفردها في الحُكم وتغييب مشاركة الجماهير العربية في صياغة القرار الوطني. • عدم ترسخ الفكر الديمقراطي وغياب التعددية السياسية ومناهضتها. • غياب ثقافة نقد الآخر في الرأي، وبروز نهج العدائية الجاهلية حول كل فكر ورأي مخالف للآخر. • سطوع القدسية على بعض الزعماء والقادة الذين يرفض أتباعهم انتقادهم أو التشكيك بمواقفهم أو حتى الرد على آرائهم، فهذا الرجل بالنسبة للأتباع يحمل من صفات التبجيل والعظمة ما يجعل الدفاع عنه واجب مقدس، والرد على رأيه كفراً. لذلك، فالأمر الحتمي لقبول الرأي الآخر هو الإيمان بمبدأ الديمقراطية، والديمقراطية ليست هي بالنظام الأحسن سياسياً ولا هي نظام مثالي، لكنها أفضل النظم الموجودة حالياً على الأرض، ومن مبادئ هذا النظام الديمقراطي القبول بالتعددية السياسية، رفض قداسة الآراء والأفكار الشخصية، غرس ثقافة قبول والأخذ بأفضل الآراء الحسنة. وعندما نؤمن بهذه الآراء أو ببعضها سيكون من السهل كثيراً التعامل مع الآخرين بأفكارهم وآرائهم المختلفة من منطلق إنساني متساوٍ، وستكون الغلبة والأمر حينه لمن يملك الحجة الأقوى والدليل الأبلغ وليس لمن يَلغي الآخر، خاصة بأن الديمقراطية لم توجد لأجل استفراد الأكثرية بالأمر وتهميش الأقلية، بل إنها وجدت من أجل حماية الأقلية من جبروت الأكثرية. وتطوير المجتمع يحتاج كثيراً إلى التجديد وتنقيح الآراء والأفكار والمعارف والاستفادة من التجارب الإيجابية للآخرين والابتعاد كثيراً عن عصمة الأفكار وقدسية الآراء وتحجر المواقف وتصلبها. والعلامة السيد محمد حسين فضل الله رحمه الله يقول (لا مُقدسات في الحوار)، لهذا يجب أن يكون الجميع أصدقاء للحوار لا أعداءً له، ومهتمين به لا غافلين عنه، ومدركين بأهميته ومتمسكين بسرابيله. ومن الدروس الجيدة للحوار مع الآخر: • التعلم ممن نتحاور معه، سواء المتفقين معنا في الرأي أو المعارضين. • الحوار ليس من أجل إقامة الحجة وإثبات صحة الرأي ولكن من أجل التعايش معه وفهمه. • التسامح مع الآخرين وتحقيق الانسجام المتبادل ونبذ الصراع من أجل مكسب آني. • يحقق الحوار المساواة من حيث التماثل بين أفراد المجتمع أمام القانون الذي يضبط حركة المجتمع. • الحوار بين الأفراد يُحقق التكامل الوطني بين الأفراد حيث تذوب الأفكار السلبية وتحل محلها الأفكار الإيجابية التي تحقق التنمية الوطنية من اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية. • يعمل الحوار على تحقيق التقارب والتعارف (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا).