الثلاثاء الموافق 9 أكتوبر 2012، أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية رامين مهمن بارست “أن طهران قررت خفض علاقاتها الدبلوماسية مع دولة الإمارات إذا استمرت في المطالبة بالجزر الثلاث” الخليجية التي تحتلها إيران، مضيفاً، كما جاء على موقع البرلمان الإيراني الإلكتروني الرسمي أن الاستمرار في “هذه المطالب التي لا أساس لها ستكون له آثار سلبية على العلاقات الثنائية”، مؤكداً أنه “إذا وصلت هذه المزاعم التي لا أساس لها ضد إيران إلى حد يرغمنا على خفض العلاقات السياسية أو قطعها (...) سنتخذ هذه التدابير كما فعلنا مع بريطانيا”.
لم تكد وكالات الأنباء، ومن بينها إيرانية رسمية الانتهاء من بث الخبر، حتى بادرت وزارة الخارجية الإيرانية إلى نفيه في بيان رسمي صادر عن وزارة الخارجية الإيرانية، كما جاء على لسان المتحدث باسمها، قال فيه إن بلده لم تهدد “بخفض العلاقات الدبلوماسية مع الإمارات العربية المتحدة كما ذكرت وسائل إعلام إيرانية رسمية”، مشيراً إلى أن حكومته “ تنفي التصريحات التي نسبت إلى المتحدث من قبل بعض وسائل الإعلام المحلية بشأن العلاقات مع الإمارات، (متهماً) وسائل الإعلام هذه بتحوير تصريحاته”.
مثل هذا التناقض السريع، الذي يصعب تفسيره، يكشف في جوهره مجموعة من الاحتمالات التي يمكن رصدها في النقاط التالية:
1. هو انعكاس مباشر وصريح لتلك الصراعات المحتدمة بين مراكز القوى في المؤسسة الحاكمة الإيرانية، والتي، وإن كانت مجمعة على الاستمرار في احتلال الجزر، والإمعان في الترويج لادعاءات شرعية ملكيتها التاريخية، لكنها تختلف في صيغ تجيير “قضية الجزر” في صراعاتها الدولية. ومن هنا، فمن غير المستبعد أن يرى من سارع إلى التهديد الأول، الذي جاء بمثابة رد، وإن كان متأخراً بعض الشيء، على تصريحات وزير خارجية الإمارات الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان الشهر الماضي أثناء وجوده في نيويورك للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي أشار فيها إلى أن “احتلال إيران للجزر الثلاث يتعارض مع القانون الدولي”، متمنياً، “أن تتعامل الحكومة الإيرانية مع هذه القضية بطريقة إيجابية وعادلة”. وفي السياق ذاته، يرى ذلك التيار المتشدد أيضاً في قضايا الجزر العربية، أن أفضل وسيلة لمواجهة أي احتمال بضربة قريبة لإيران تقوم بها الولايات المتحدة بشكل مباشر، أو عن طريق إسرائيل، إنما يأتي من خلال تهديدات من نمط ذلك أشرنا له. بالمقابل ، من غير المستبعد، أن ترى مراكز قوى أخرى، أنه الأفضل في هذه المرحلة الاستمرار في سياسة الاحتلال، لكن دون إقحامها في أية مواجهات دولية أخرى، بما فيها التصدي لذلك الهجوم الأمريكي المتوقع. وأن الفصل بين الاثنين، يخدم السياسة الخارجية الإيرانية، في حين، يمكن أن يكون الدمج، كما يرى ذلك التيار، عنصراً سلبياً فيها.
2. هو أيضاً، ودون إغفال الاحتمال الأول، بل ربما يتكامل معه، تجسيد ملموس لبعض أشكال التسرع غير المدروس بدقة لما أصبح يسود السياسة الخارجية الإيرانية، التي باتت تتصرف بردود فعل متناقضة، إزاء الضغوطات الدولية، المناوئة للسياسة النووية الإيرانية، وخاصة بعد الانهيار السريع الجارف الذي تعرضت له العملة الإيرانية إثر تصعيد العقوبات التي تمارسها ضدها العواصم الغربية، والتي تركت آثاراً سلبية عميقة على الاقتصاد الإيراني من جانب، وضاعفت من التناقضات الداخلية من جانب آخر. فنجاح إيران في تشكيل جبهة خارجية عريضة بين مؤيد لها في برامجها النووية، ومحايد في الاختيار بين الموقف الإيراني والموقف الغربي، بات يعاني من بعض التراجعات، أصبحت ملموسة في التحول الطفيف في الموقفين الصيني والروسي المؤيدين من إيران، وكان لكل ذلك انعكاساته السلبية على وحدة الصف الداخلي الإيراني.
3. محاولة للتلويح بفتح جبهة صراع جديد في الخليج العربي، فيما لو خسرت إيران معركتها على الجبهة السورية، التي لم تعد نتائج المعارك تسير على أرضها وفق مشروع التحالف الإيراني السوري، الذي بدأت تعتريه بعض الثغرات، سواء في الجزء العراقي منه، أو ذلك الخاص بحزب اللبناني. وبدأت طهران تشعر بأن الأرض التي تقف عليها بدأت تفقد بعضاً من صلابتها، وهو أمر ليس في وسع طهران أن تتعامل معه بالحكمة المطلوبة، عندما يتفاعل مع أوضاعها الداخلية، التي باتت هي الأخرى تهدد بالانفجار، فيما لو تفاقمت الأوضاع المعيشية، جراء حرب المقاطعة التي باتت العواصم الغربي تصعد من إجراءاتها. من هنا، ففي التصريح الإيراني الأول المهدد بخفض العلاقات مع الإمارات، إشعار مبطن، بتوفر بعض المواقع الشرق أوسطية الكامنة، لكنها قابلة للاشتعال، فيما لو سارت الأمور بشكل معاكس للسياسة الخارجية الإيرانية في هذه المنطقة.
4. مجرد رسالة داخلية، تخاطب المواطن الإيراني، كي تمتص موجة الغضب وعدم الرضا التي باتت تجتاح الشارع الإيراني، وتهدد بتمزيق الوحدة الداخلية الإيرانية التي لا يمكن أن تستغني عنها طهران في أية مواجهة مع قوى خارجية، خاصة بعد شطب، واشنطن، اسم منظمة “مجاهدي خلق” الإيرانية من قائمة القوى السياسية المدرجة في لائحة التنظيمات الإرهابية، وهو نقلة نوعية في طبيعة القوى التي تتشكل منها الجبهة التي يمكن أن تنخرط في أي هجوم محتمل ضد طهران. من الخطأ التقليل من أهمية هذا الشطب، ليس بفضل الثقل الذي تتمتع به تلك المنظمة في الشارع السياسي الإيراني فحسب، وإنما لكونه ينقل الصراع من الحدود الخارجية، إلى المواقع الداخلية.
بغض النظر عن كل تلك الأسباب والتفسيرات، ودون إجحاف إيران حقها في مواقفها الصحيحة من بعض القضايا العربية، وفي المقدمة منها الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، تبقى حقيقة ساطعة واحدة، هي أن تلك الجزر، ودون الحاجة للعودة إلى الوراء، والاستنجاد بحقائق تاريخية ترقى إلى مستوى المسلمات الراسخة، هي جزء لا يتجزأ من دولة الإمارات العربية، التي لها الحق الشرعي في استعادتها وبسط نفوذها عليها.
ربما تكون موازين القوى العربية – الإيرانية، لا تسمح اليوم بذلك، لكن ذلك لا يعني شرعنة الاحتلال الإيراني، ولا يجبر الدول العربية على القبول به.
بقيت كلمة يهمس بها المواطن العربي الخليجي، في آذان المسؤولين الإيرانيين، أليس من الأجدى، وانطلاقاً من المصلحة الإيرانية البحتة، دون التفريط في الحقوق العربية التي يعترف بها القانون الدولي المعاصر، قبل التاريخ، لإيران أن تكون علاقاتها الخارجية مع شقيقاتها العربية الخليجية المسلمة قائمة على حسن الجوار، والتعايش السلمي المشترك القائم على الاحترام المتبادل للسيادات الوطنية، من تلك التي تشوبها عناصر الصراع، وتسيرها قوانين التوتر، حتى فيما لو تعرضت إيران لهجوم خارجي.
يستطيع ذلك المواطن الخليجي أن يفهم، بل وربما يقبل بقرار مجلس الشورى الإيراني في نهاية نوفمبر 2011 خفض العلاقات الدبلوماسية مع بريطانيا المتهمة بالتحرك ضد إيران، لكنه لا يستطيع، بل ومن غير المنطقي أن يقبل، التهديدات الإيرانية ضد دولة الإمارات، وخاصة عندما تطالب بحقها في استعادة جزرها الثلاث، التي لا تكف طهران عن ترديد أقوالها القائمة على أن “الجمهورية الإسلامية الإيرانية متمسكة بصرامة بوحدة أراضيها، وأن سيادة إيران على الجزر الثلاث غير قابلة للتفاوض”.
في اختصار شديد، ومع التمسك بالرغبة الشديد في علاقات حسن جوار عربية – إيرانية تبقى الجزر الثلاث إماراتية وهذا أمر غير قابل للتفاوض أو المساومة.