على نحو مواز ومتكامل مع الحقائق الست التي صاغ معالمها والنتائج الخمس التي تولدت عنه، هناك خمس مخاطر مختلفة زرعها “الربيع العربي” في أعماق تربة ساحة العمل السياسي العربية، فباتت محيطة بالمنطقة العربية تشوه ماضيها الذي نتحدث عنه، وتهدد حاضرها الذي تعيشه، وتنذر بمستقبلها الأسود المتربص، ما لم يجر الانتباه له والاستعداد لمواجهته من منظور علمي بعيد عن أي انفعال عاطفي.
أول تلك الأخطار هي حالة الإحباط شبه الشامل الذي بدأ ينتشر في صفوف المواطنين العرب، والذي تطور في بعض الدول إلى درجة قريبة من حالة التذمر المشوبة باليأس من أي تغيير إيجابي يمكن أن تشهده المنطقة في تاريخها المعاصر، وبتنا نسمع من يتحسر، وهو غير محق في ذلك، على تلك الأنظمة التي أطيح بها، والتي كانت في يوم من الأيام أسوأ من الكابوس الجاثم على صدره.
خطورة حالة اليأس هذه عندما تتفشى في صفوف المواطنين، فإنها تخلق جيلاً يائساً لا يستطيع إلا أن يورث هذه الحالة للأجيال القادمة، الأمر الذي ينذر المنطقة بمستقبل محبط عقيم غير قادر على الإنتاج، عندما يفقد هذا الجيل ثقته في نفسه وفي قدرات بلاده الذاتية، ويضعها في القوى الخارجية المتربصة بالمنطقة، والتي لن تتوانى عن تجيير تلك الحالة لما يخدم مصالحها حتى وإن أدى ذلك إلى تدمير المنطقة بعد النجاح في شل حركة تقدمها. تطابق حالة اليأس هذه بين مصالح القوى الخارجية في السيطرة على المنطقة، وتطلعات القوى الداخلية الضيقة القابلة بأي فتات يرمى لها فترضى به.
ثاني تلك الأخطار هو وصول الحالة في بعض الدول إلى ما يبدو وكأنه ليس هناك من القدرة على الوصول إلى حالة حسم قاطع يميز بوضوح بين من هو الطرف الخاسر من ذلك المنهزم، الأمر الذي يؤدي موضوعياً إلى حالة من الشلل الجماعي وليس الفردي الذي تحدثنا عنه أعلاه، والتي تتخللها بعض الصدامات ذات النطاق المحدود وغير القادرة على حسم الصراع لصالح طرف على طرف.
الخطر الذي تشكله هذه الأعراض هو قدرتها على وضع العصا في عجلة أي تقدم ممكن في البداية، كمقدمة للانتقال إلى التراجع الذي لا تظهر معالمه إلا في حالات متأخرة، خصوصاً على الصعيد الاقتصادي، وحينها تفقد تلك البلاد الزخم الذاتي الذي تحتاجه للحيلولة دون تنامي ذلك التدهور الذي يدمر البنية التحتية، ويقضي على الموارد الطبيعية، ويشل حركة الموارد البشرية، ويستنزف الموارد الاقتصادية. ما هو أسوأ من ذلك هو إشاعة الخوف المشوب بانعدام الثقة في المستثمرين الأجانب، فيتوقف تدفق رأس المال الأجنبي الخارجي المباشر. المحصلة الطبيعية لتلك الحالة هي نضوب كامل للموارد الداخلية وجفاف مواز للاستثمارات القادمة من الخارج.
ثالث تلك الأخطار هي انتعاش ما يعرف بالاقتصاد الرمادي المعتمد في نموه وازدهاره على الترويج للبضائع التي لا تتسع دوائرها إلا بانتعاش التجارة التي تبحث عنها الأسواق السوداء مثل المخدرات والأسلحة والاتجار بالبشر. وهي نتائج بتنا نراها في دول مثل سوريا واليمن، حيث تشير التقارير الدولية إلى تفشي مثل تلك الظواهر المدمرة للمجتمع والمعيقة لحركة تقدمه. أسوأ ما في ذلك الاقتصاد، إضافة إلى إفقار البلاد وحرمانها من حظها في التطور والبناء، هو استنزاف مواردها في اقتناء بضائع مهدورة مثل السلاح، وحرف أجيال متلاحقة من الشباب بترويج المخدرات وتشجيع الاتجار بالبشر في صفوفها. وتتحول البلاد بفضل كل ذلك إلى بؤرة لإفساد الشباب بدلاً من أن تكون بوتقة احتضانهم ووسيلة تلجأ لها القوى المعادية، أو حتى المنافسة، من أجل إفقارها كخطوة أولى تسبق السيطرة على مقدراتها. ولا ينبغي هنا إسقاط دور القوى الداخلية ذات المصالح الضيقة كمساعد لمشاريع القوى الخارجية الطامعة في السيطرة.
رابع تلك الأخطار هي هجرة الأدمغة المحلية، وعلى وجه الخصوص تلك المبدعة منها، التي تطفو على السطح باحثة عن ملجأ ينتشلها من واقعها المأساوي غير القادرة على تغييره أو على احتمال العيش فيه، وتترسب في قاع ذلك المجتمع، وتكمن فيه، تلك القوى البشرية الخاملة في سلوكها المتعثرة في حياتها، التي تشكل عنصر تخلف لذلك المجتمع بدلاً من أن تمارس تلك المبدعة دورها في تطويره.
هذا الزواج الموضوعي غير المعلن، بين هجرة المبدع وبقاء الخامل، تستفيد منه استفادة عظمى تلك الجهات الخارجية من معاهد علمية وشركات تجارية، التي ليس لها من عمل سوى التربص لمثل تلك الفرص بإغراء الشباب على الهجرة للاستفادة منهم كموارد بشرية حالية أو مستقبلية يجري تشغيلها في تطوير تلك الدول بدلاً عن بلدانها الأصلية. شاهدنا ظاهرة الهجرة الجماعية في سوريا ومن قبله في مصر وسبقتهما إليه تونس.
خامس تلك الأخطار هو التفكك المجتمعي الذي يكون محصلة طبيعية لكل الأخطار التي أشرنا إليها، حيث تتفاعل حالة الإحباط مع ظاهرة اليأس سوية مع انتعاش الاقتصاد الرمادي، وتتعاون جميعها مع الهجرة الجماعية للأدمغة، كي تولد في نهاية المطاف مجتمعاً عربياً خاوياً تنتشر فيه الأوبئة الاجتماعية، وتتحكم فيه قوانين سوق رمادية مدمرة، وتستنزف موارده البشرية جهات خارجية معادية. خطورة هذا التفكك المجتمعي الذي نحذر منه هو شموليته من جهة، وصعوبة التشافي منه من جهة ثانية.
أمام كل ذلك، وعندما نتأمل في المنطقة العربية اليوم في أعقاب عواصف “الربيع العربي” ونقوم بجردة علمية لما قاد إلى هبوب رياح ذلك “الربيع العربي”، وإلى النهايات التي آلت إليها زوابعه السياسية والاقتصادية، بل وحتى الاجتماعية على حد سواء، ربما وبحسابات الربح والخسارة البسيطة والمباشرة تسيطر علينا حالة اكتئاب نظراً لما يبدو عليه الوضع من رجحان كفة الخسائر على الأرباح. لكن حقيقة الأمر ليست الأمور كما تبدو عليه الصورة من الخارج. فهناك إيجابية لا يمكن أن ننكرها حققها ذلك “الربيع”، وهو نجاحه في رسم خط فاصل واضح المعالم بين مرحلتين مهمتين في تاريخ العرب المعاصر، أولهما تلك التي سبقته، وثانيهما تلك التي أعقبته. فلم يعد اليوم من إمكانية، مهما حاول البعض، لإعادة عقارب الساعة نحو الخلف، وليس أمام العرب من طريق يسلكونه سوى ذلك الذي يقودهم نحو الأمام رغم كل الصعوبات التي سيواجهونها والأخطار التي تنتظرهم وهو ما تحدثنا عنه.
كائناً من يكون القادم سيجد نفسه مجبراً على السير نحو الأمام، ولن يستطيع أن ينظر نحو الخلف، ومن ثم فلن يكون في وسعه بناء نظام تنخره سلبيات الأنظمة المطاح بها، والتي كان فسادها وعدم ملاءمتها لقوانين حركة التطور الإنسانية سبباً مباشراً في هبوب رياح ذلك الربيع، الذي على من يريد أن يتناوله بالتقويم والمعالجة أن يراه في سياقه التاريخي ويقيس معايير نجاحه بتلك التي وضعت للحكم على تقدم أو تأخر أمم أخرى.
تاريخ تقدم الأمم أو تخلفها لا يقاس بالأعوام بل بالعقود، وطريقها الذي تسلكه ليس ذلك المستقيم، فهو مليء بالمطبات وتكتفه عديد من الالتواءات. في إطار هذه الصور ينبغي النظر إلى مشهد الربيع العربي، إن شئنا معالجته من منظار المدخل العلمي الذي ندعو إلى الأخذ به