يواصل المشهد السوري احتفاظه بصورته التي تماسكت مكوناتها خلال الأشهر الأربعة الأخيرة، والقائمة على مجموعة من العناصر من بين أهمها، تصاعد المعارك العسكرية بين القوات المتقاتلة، حيث تفيد الأنباء الواردة من دمشق عن “تواصل المعارك في مدينة حلب مع تزايد الحديث عن استعداد قوات النظام السوري لشن هجوم واسع عليها، وتدخل الطيران الحربي وقصف حي صلاح الدين الذي يتحصن فيه مقاتلو الجيش الحر”. وقد أفاد مصدر أمني سوري رفيع لوكالة فرانس برس “أن جيش النظام السوري بات جاهزاً بانتظار الأوامر لشن الهجوم الحاسم للسيطرة على أحياء المدينة، وأن التعزيزات العسكرية ما زالت تصل، مؤكداً وجود 20 ألف جندي على الأقل على الأرض، (منوهاً إلى) أن الطرف الآخر كذلك يرسل تعزيزات في إشارة إلى المقاتلين من المعارضة”. مشهد التوتر المتصاعد الذي تتخلله المعارك العسكرية في حلب، شبيه، إلى حد بعيد، بما يدور في مدن سورية أخرى مثل حمص، وحماة والرستن “بريف دمشق” و«دير الزور”.
على نحوٍ موازٍ من ذلك تتصاعد احتمالات التدخل الأجنبي السياسي، كما ألمح إليه وزير الدفاع الألماني توماس دي ميزيير حيث استبعد “احتمال التدخل العسكري في سوريا”، لكنه في الوقت ذاته حذر من مخاطر “فشل الجهود الدبلوماسية لوقف العنف الدموي في سوريا”، يقابله ومن العاصمة الملاوية “ليلونغوي” إعلان متحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية عن عزم “الوزيرة الأمريكية هيلاري كلينتون السبت المقبل على زيارة إلى تركيا للبحث في الأزمة السورية”.
المتابع لذلك المشهد الغاية في التعقيد، والذي طال أمد تفاقم أحداثه على الصعد السياسية والعسكرية كافة لا يملك سوى التساؤل، لماذا يتأجل حسم الصراع في سوريا خلافاً لما جرى في ليبيا، حيث قلب التدخل العسكري الدولي الموازين لصالح القوى المناهضة لنظام حكم معمر القذافي، ولم يتهاوَ نظام الأسد دون الحاجة لتدخل أجنبي مباشر بتلك السرعة التي عرفتها أنظمة عربية أخرى مشابهة له في الكثير من السمات مثل تونس، وفيما بعد ذلك مصر؟
هناك أسباب كثيرة بالطبع، البعض منها ذاتي ينبع من الآليات والسبل التي طور بها النظام نفسه، والأخرى موضوعية مصدرها عوامل تدفع بها المصالح التي تريد أن تحتفظ بها دول مثل روسيا وإيران، وترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر باستمرار نظام بشار الأسد في السلطة.
فعلى الصعيد الذاتي المحض، تفرد نظام “بشار” ومن قبله أبوه “حافظ” بنجاحه في بناء مؤسسات عسكرية وأمنية متماسكة، يقوم ولاء أفرادها، وهذا يكشف سر استمرار تماسكها حتى اليوم رغم تصاعد المواجهات بينها وبين الأطراف المناوئة لها، على الانتماء الطائفي، الذي هو وحده القادر على أن يمد أقلية حاكمة بالقدرة على السيطرة على مقدرات البلاد. فبخلاف الجيش المصري ذي السلوك الوطني العام، بل وحتى الليبي إلى حد بعيد، يوفر الرابط الطائفي “العلوي” أفضل ما يحتاجه نظام قمعي مثل النظام السوري لتجييش مؤسسات الدولة ضد كل من تسول له نفسه المساس بها، فما بالك حين يصل الأمر إلى مستوى الدفاع عن الوجود وليس المصالح فحسب.
بالمقابل، وعلى المستوى الذاتي أيضاً لم تنجح القوى المناهضة لذلك النظام، ولأسباب عديدة، من تشكيل الجبهة الوطنية العريضة المتماسكة القادرة على صهر قواتها في بوتقة واحدة ترص صفوفها وتقاتل تحت راية واحدة، بعد أن تجمد خلافاتها الثانوية والتي يفترض فيها أن تكون هامشية أمام التناقض الرئيس الذي كان من الأجدر أن يحظى بالمزيد من الاهتمام، كي يصبح هو الأكثر حضوراً في صراعها مع تلك المؤسسات الحاكمة.
لذلك، وكما شاهدنا بعض الانشقاقات من بعض رموز النظام، وجدنا أيضاً وبالمقابل بعض الاستقالات وسط قيادات الجبهة المعارضة، الأمر الذي زود ذلك النظام بالكثير من مقومات الاستمرار والصمود، وحرم الجبهة المناوئة له من قدرتها على سرعة الحسم، ومن ثم إسقاطه، بعد أن تنجح في شل مؤسساته، أو إنحيازها ضده.
هذا التماسك على صعيد النظام، وذلك التخلخل على مستوى الطرف المناوئ، هو الذي أتاح للأول القدرة على الاحتفاظ بدعم ومؤازاة القوى الخارجية الدولية مثل روسيا والصين، والإقليمية مثل إيران، بل وحتى قوى صغيرة لكنها مؤثرة في موازين القوى، مثل حزب الله البناني. وبالمقابل حرم القوى المناوئة، من تشكيل جبهة خارجية، دولية وإقليمية، عريضة، كما جرى في ليبيا، تسرع من اقتراب لحظة حسم الصراع.
هذا على المستوى الذاتي، أما على المستوى الموضوعي، فلا شك أن هناك مصالح مباشرة للقوى الدولية المساندة للنظام القائم مثل روسيا والصين، و الإقليمية مثل إيران، في أن لا يطاح بنظام الأسد. فبالنسبة لموسكو، تتداخل المصالح العسكرية مع تلك السياسية التي تجبرها على الوقوف إلى جانب بشار الأسد. فعلى الصعيد العسكري، هناك صفقات السلاح التي يقدرها بعض المصادر الغربية بمليارات الدولارات، إلى جانب قاعدة طرطوس العسكرية، التي توفر لموسكو مواقع متقدمة في منطقة الشرق الأوسط. أما على المستوى السياسي، فهناك الحاجة إلى استمرار التحالف الذي ما يزال قائماً بين نمط الأنظمة الأوليغاريكة العربية، وبقايا الاتحاد السوفياتي، وهو النظام الحاكم في موسكو، وهي علاقة متميزة، يضاعف من وزنها في الصراع الإقليمي والدولي، كون سوريا هي آخر حلقة بقيت في سلسلة تلك الأنظمة التي كانت تضم، مصر وليبيا والجزائر، بل وحتى اليمن قبل وحدة الشمال والجنوب.
أما على المستوى الإقليمي، فهناك الحليف الإيراني، الذي لا يملك إلا أن يقف إلى جانب نظام بشار الأسد، الذي يشكل، أول ما يشكل، نوعاً من المنطقة العازلة بين طهران وتل أبيب، فيما لو فكرت هذه الأخيرة في الإقدام على حماقة عسكرية تحت غطاء ضرب المفاعلات النووية الإيرانية، قبل أن تؤمن لها الغطاء السياسي الدولي المطلوب كما عملت عند ضرب المفاعل النووي العراقي في منتصف السبعينات من القرن الماضي، وهو احتمال لا ينبغي إسقاطه مهما كان ضئيلاً أو بعيداً. ماهو أهم من ذلك أيضاً، هو توفير سوريا، بالنسبة للاستراتيجية الإيرانية الشرق أوسطية، الامتداد الجغرافي الذي يعزز من القدرات الدفاعية عن نظام عربي حليف آخر لطهران، هو العراق، ضد أية محاولات خارجية تهدده من جانب، وتسهيل، وربما حماية الإمدادات اللوجستية الإيرانية لحزب الله في لبنان، وهو أمر لم ينكره هذا الأخير، من جانب آخر. ومحصلة كل ذلك شريط حلف دعائمه قوى طائفية، لا تستطيع التفريط بنظام بشار الأسد في هذه المرحلة، على الأقل.
هذا التفاعل بين الموضوعي والذاتي، هوالذي يمد من أجل نظام بشار الأسد، وبوفر له الكثيرمن عناصر الصمود التي يصعب إضعافها، في غياب شكل معارض موازٍ لها قادر على خلق التماسك الداخلي المطلوب، وبناء التحالف الدولي المساعد الذي لا تتجاوز حدوده المساندة، التي لا تصل إلى المس بسيادة سوريا أو النيل من استقلالية قرارها