غادرنا في صمته المعهود به وتواضعه الذي حفره في أذهان من عملوا معه، تماماً كما كان يغادر إحدى غرف مركز التخطيط الفلسطيني في «حومة» الجامعة العربية إثر أحد الاجتماعات الساخنة التي كانت ترتفع فيها أصوات المشاركين بحثاً عن نهاية معينة بشأن إحدى موضوعات القضية الفلسطينية، التي كانت حينها (في نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات من القرن الماضي) تواجه حملة مسعورة بسبب مشروعات إعادة ترتيب البيت اللبناني، في نطاق البحث عن الصيغة النهائية لمعادلة الشرق الأوسط الجديد، التي كان يحمل رايتها مهندس الدبلوماسية الأمريكية المخضرم ذو الأصول اليهودية والميول الصهيونية هنري كسنجر. وإن كان لنا أن نطلق صفة معينة متكاملة كانت تسود سلوك فقيدنا الفلسطيني المولد العربي الهوى، هاني الحسن، فليس هناك أفضل من لقب الوسط، فقد كان رحمه الله «وسطاً» في كل شيء، وقادراً على تحمل مسؤوليات الشخصية الوسط في بحر تتنازعه الأيدلوجيات، وقضية تموج بأحداثها التجاذبات مثل القضية الفلسطينية. ففي فريق الخبراء الذي كان يحيط بالزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات احتل هاني الحسن مركز الوسط، وكان يمارس هذا الدور بمهنية عالية ولباقة لا متناهية. كانت له القدرة على أن يقود هجوم فريقه الفلسطيني عندما تميل موازين القوى لصالح كفته، لكنه وعلى ذات المستوى العالي من المرونة لم يكن يتعثر وهو يرتد كي يساند خط الدفاع، فيما لو تغيرت الظروف المحيطة، ووجد هاني أن هناك هجمة مرتدة من إحدى الفرق المعادية ضد فريقه الفلسطيني، وما أكثرها في تلك المرحلة. مهارة هاني وإجماع أعضاء الفريق على إبقائه في مركز الوسط تبيح له أن يترك، دوماً وبوعي كامل وإرادة متواضعة، لأحد أفراد خط الهجوم الفلسطيني تسجيل الهدف في مرمى الخصم، فينعم ذلك الهداف بتصفيق الجمهور الذي يبحث عنه لإرضاء طموحاته، وينعم هاني برضى داخلي فيحسن قيادته لفريقه في تلك المباراة، ومرة أخرى، ما أكثرها، في تلك الفترة. بالقدر ذاته، كان هاني قادراً، تساعده على ذلك خبرته السياسية، ومهاراته الفردية، على أن يرتد بسرعة، كي ينضم إلى خط الدفاع الفلسطيني، وفي الوقت المناسب، عندما يتعرض لهجمة مباغتة، من إحدى الجهات المعادية للقضية، دون أن تبدو عليه أي من مظاهر الإرهاق، أو تتملكه أي من نوبات اليأس، التي كانت في تلك الفترة إحدى أعراض أمراض الجسد الفلسطيني في الساحة اللبنانية، جراء الهجمات المتتالية التي تعرضت لها، وكانت أبرز معاركها «مجزرة صبرا وشاتيلا»، وسبقتها مجازر مخيمات أخرى مثل «مجزرة مخيم تل الزعتر». كان هاني، رحمه الله، وسطياً أيضاً في انتمائه الأيديولوجي، فخلفيته الإسلامية، لم تقف عائقاً أمام دوره المميز في فتح أبواب دول المعسكر الاشتراكي أمام الثورة الفلسطينية التي كانت في أمس الحاجة لها، وخاصة في منتصف العقدين السادس والسابع من القرن الماضي، وحافظ على وسطيته في إطار الصراعات المتحدمة حينها في صفوف ذلك المعسكر، فاحتفظ بعلاقات مميزة بين الثورة الفلسطينية والكتلة الصينية، مستعيناً في ذلك بزميله الذي سبقه على طريق الشهادة خليل الوزير (أبوجهاد)، دون أن يفرط في الثقل الذي ليس في الوسع تجاهله، الذي كانت تنعم به الكتلة السوفياتية، مستنجداً لتثبيت العلاقة وعدم تعرضها لأي اهتزاز لغير صالحها، بزملاء آخرين من أمثال أحمد عبدالرحمن، وصلاح خلف (أبوأياد). في الاتجاه ذاته، لم يترك الفرصة لانتمائه للمذهب السني، أن تؤخر زيارته إلى طهران، لحظة الإطاحة بنظام الشاه، ونجاح الثورة الخمينية، فكان على رأس طلائع الفريق الذي أسس لتلك العلاقة، قبل زيارة أبوعمار لطهران ولقائه الشهير مع آية الله الخميني. ومارس هاني، في مراحل لاحقة دوراً مميزاً في الوقوف أمام محاولات النيل من تلك العلاقة أو المس بأي من جوانبها التضامنية. وسطية هاني الحسن، كانت واضحة لمن لم يكن يريد أن يتجاهلها، أو النيل منا، لما كانت تشكل من تحد له، أو تعارض مع سياسته، عند وصولنا إلى العلاقة بين القضية الفلسطينية، والأوضاع العربية، وهي علاقة كانت تسير في طريق وعرة شائكة، ربما يصعب على قيادات المعارضة اليوم، بفضل تغير الظروف المحيطة بتلك العلاقة، تقدير خطورتها، ومتطلبات السير بسلامة في طريقها. كان هاني، في نقاشاته الداخلية، قادراً على تلمس حاجة المنطقة العربية إلى التغيير، والتغيير نحو الأفضل، ولم يكن خاف على سياسي مخضرم من مستواه، احتياج القضية الفلسطينية إلى كل أشكال الدعم، من القوى الحاكمة، والتنظيمات المعارضة لها. كان طرفاً المعادلة، السلطات القائمة والمعارضة الطامحة لتغييرها، يمتلكان جذوراً عربية، يعززها امتداد دولي. رغم ذلك، واستناداً إلى وسطية، كان يصر هاني الحسن على عدم التفريط في أي من مقاييسها، كان هاني قادراً على نسج علاقة من نمط معين مع المعارضة، كي يكسبها إلى جانب القضية، دون أن تصل تلك العلاقة إلى المستوى الذي يستفز الأنظمة القائمة، أو يثير حفيظتها ضد القضية الفلسطينية. أمسك هاني بطرف العصا من الوسط، دون انتهازية، وإنما بمهارة السياسي المحنك الملتزم بقيمه الوسطية التي كانت الثورة الفلسطينية في أمس الحاجة لها في تلك المرحلة. لم يسمح هاني الحسن، لنزعاته القومية العربية أن تمارس دوراً يكون على حساب وطنيته الفلسطينية، والعكس تماماً، منع تلك الوطنية أن تكون حاجزاً شوفينياً يقزم أمام انتمائه العربي. وعلى المستوى الفلسطيني ذاته غلف هاني نفسه بسترة سميكة واقية كي يحمي تلك الوسطية. فهو لم ينس أبداً أنه أحد أبناء حركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح» البررة. ففي صفوفها تلقى تدريباته المبكرة السياسية منها والعسكرية. لذلك وجدناه مدافعاً عنيفاً عن سياسات فتح وتكتيكاتها على المستويين العربي والدولي. لكنه بالقدر ذاته، كان يدرك بخبرته السياسية، حاجة القضية الفلسطينية إلى أكثر من لون، إن هي أرادت أن تشكل جبهة عربية ودولية تحيط بها وتشكل خط الدفاع الأول الذي تحتاجه في معركتها ضد آلة الحرب اليهودية، وامتداداتها الصهيونية. لذا لم ينكر هاني، ومن تلك المنطلقات، على الفصائل الفلسطينية الأخرى حقها في اختيار الانتماء الذي وجدت فيه الطريق الذي اعتقدت أنه الأفضل للعودة إلى فلسطين. كان هاني، هنا حريصاً كل الحرص، على إبراز التزامه التنظيمي بحركة فتح، بما يشمل ذلك من امتداداتها سياسية، لكنه كان أيضاً، حريصاً كل الحرص على أن تحافظ فتح، بوصف كونها التنظيم الأكبر، على ممارسة دور الأم الحاضنة التي تنظم العلاقة داخل البيت الفلسطيني، ومن ضمن ذلك الدور، حماية التنظيمات الفلسطينية، من هجمات النظمة العربية، ومحاولات التسلط عليها. قائمة طويلة من «الوسطية» تنسج سيرة هاني الحسن العطرة، وتظل ترفرف في سمائنا العربية تذكرنا بأننا قبلنا، قبل أيام، توديع أحد رموز الثورة الفلسطينية المخلصة البارزة، التي يستحيل تعويضها، دع عنك محوها من ذاكرتنا