انتهى البيان الختامي الصادر عن مؤتمر أصدقاء سوريا الذي أنهى أعماله في باريس يوم الجمعة الموافق 6 يونيو 2012، وتلاه وزير خارجية فرنسا لوران فابيوس، بدعوة جلية إلى مجلس الأمن يطالبه فيها «باتخاذ سلسلة من القرارات بشأن سوريا تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وإلى رحيل بشار الأسد عن سدة الحكم»، مشدداً على «ضرروة توسيع العقوبات على نظام الأسد وتفعيلها، بالإضافة إلى توثيق جرائم النظام السوري، وإرسالها للمحكمة الجنائية الدولية». أشعل هذا المؤتمر كسواه من مجموعة من المؤتمرات التي عقدت مؤخراً حول الأوضاع في سوريا، حاملة صفة «أصدقاء سوريا»، كان أبرزها ذلك الذي عقد في إسطنبول، نيران الخلافات داخل أطراف المعارضة السورية، لم تقل عنها حدة تلك التي أثارها في صفوف القوى الدولية، بمن فيها تلك التي أجمعت على ضرورة التغيير الذي لم يعد أمام نظام الأسد من خيار سواه، لكنها اختلفت في النهايات التي يمكن أن تؤول لها الأوضاع في سوريا بعد سقوط ذلك النظام أو رحيله. وعند تناول موضوع مصير النظام السوري القائم ليس هناك أي داع للضياع في دهاليز القوانين الدولية، من مستوى «الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة»، بحثاً عن نص قانوني يبرر دعوات الإسقاط، التي ربما يحتاجها النظام الذي سيأتي على إنقاضه لانتزاع شرعيته الدولية، أو نيل القبول العالمي، بل وحتى الإقليمي. فهناك شبه إجماع بين معظم القوى الأساسية على الصعيدين الدولي والإقليمي، ذات العلاقة، بشكل أو بآخر بمستقبل الأوضاع في سوريا، على أن الأوان قد حان من أجل التغيير في سوريا، رغم أخذنا في الاعتبار تلك الأصوات غير المتفقة تماماً مع ما جرى في باريس، كما عبر عن ذلك تغيب روسيا والصين وعدم مشاركتهما في المؤتمر، وتحفظات طهران، وتشكيكها في نوايا المشاركين فيه. لكن الخلاف يدب بين الكثيرين من هؤلاء عند الحديث عن مستقبل النظام القادم. يقترب المشهد السوري اليوم، من ذلك الذي عرفه المواطن العربي إثر دخول القوات الأمريكية بغداد ونجاحها في إسقاط نظام صدام حسين في تسعينات القرن الماضي، والجدل الواسع الذي عرفته مؤسسات صنع القرار الدولي والإقليمي بشكل عام، ودولها، كل على حدة، على نحو خاص، والمشابه في جوهره دون التوقف عند تفاصيله، أو القفز على نتائجه، موجة الاختلافات التي طغت على اللقاءات التي جمعت القوى العربية ذات العلاقة بالأوضاع في العراق حينها. ما يدعو المواطن العربي إلى استحضار المشهد العراقي اليوم، بعد مضي ما يقارب من عشرين عاماً على رحيل نظام صدام، هو الخوف من المستقبل البديل، الذي يبدو أنه مشابه في الكثير من جوانبه لذلك الذي انتهت إليها الأوضاع في العراق بعد إزاحة صدام. فمن يرى العراق اليوم، دون الترحم، كما يحلو للبعض، على نظام صدام، يكتشف، لكن بعد فوات الأوان، أن إسقاط صدام شيء، وطموح المواطن العراقي في بناء نظام يلبي طموحاته شيء آخر. فما وصلت إليه الأحوال في العراق اليوم، وهي النتيجة المنطقية التي ساق نظام صدام البلاد نحوها، لا تقل سوءاً، إن لم تكن أشد من عراق صدام. فعراق اليوم تمزقه الخلافات الفئوية على الصعيد الداخلي، وتشله قواه المنهوكة بالتدخلات الإقليمية الخارجية عن ممارسة دورة المؤهل له على الصعيد القومي العربي. ومرة أخرى، ودون الحاجة للدخول في التفاصيل، ربما تعود تلك النتيجة المؤلمة، إلى أن العرب بمن فيهم العراقيون، دون سواهم من القوى الفاعلة حينها، ممن كانت لها مصلحة مباشرة في رحيل صدام، كانوا يفتقدون إلى رؤية واضحة تحدد ما هوالنظام الذي يطمحون إلى تشييده بعد التخلص من صدام. وهكذا وجدنا العراق يدخل في دوامة تخبط سياسي، وحده الله يعلم متى سيخرج منها، أفقدته القدرة على ممارسة دوره الذي يليق به على المستويين العربي والدولي، وجردته من عناصر القوة التي يحتاجها لمنع جيرانه من أمثال إيران وتركيا من العبث بأوضاعه الداخلية. تتكرر الصورة اليوم أمام من يتابع المشهد السوري، حيث يلمس، أن آخر من يمتلك الصورة الواضحة للنظام الذي يمكن أن يقام على أنقاض نظام الأسد أورحيله من سوريا هم مرة أخرى العرب، ومن بينهم المعارضة السورية، التي ماتزال تنهشها الخلافات، وتمزق جسدها التناحرات، سواء في تحليلاتها السياسية التي تسود تصريحاتها العلنية، أو سلوكها العملي على أرض الواقع، في صدامها مع الأسد، بالنسبة للقوى السورية، أو مناوشتها معه، على صعيد القوى العربية. فالإجماع على رحيل الأسد، أمر في غاية الأهمية، لكنه وحده ليس كافياً كي يأتي بالبديل الأفضل منه، خاصة عند معالجة واقع مثل الحالة السورية، بتعقيداتها الإقليمية، وصعوباتها الدولية، دع عنك أوضاعها الداخلية. فبغض النظر عن الخلفيات العقيدية والسياسية التي تسير القوى الضالعة اليوم في عمليات الطامحة لإحداث التغييرات المتوقع لها أن تتجسد في سوريا، فمن سيأتي بعد الأسد عليه أن تكون بين يديه، قبل ترتيب أوضاع البيت السوري من الداخل، إجابات واضحة لمجموعة من الأسئلة ذات العلاقة بدوره على المستويين الدولي والإقليمي، ربما يكون الأكثر أهمية منها هي التالية: 1. كيف سيحدد النظام القادم موقفه من التنافس العربي – الإيراني في الشرق الأوسط، المحتدم اليوم في هذه المنطقة، قبل الإشارة إلى النزاع العربي - الإسرائيلي. لن يستطيع القادمون الجدد أن يزيحوا، بالسهولة التي يتوهمونها، روابط العلاقات التي نسجتها دول مثل إيران مع إدارات صنع القرار في سوريا اليوم، وذهاب بشار الأسد، لن يعني إزالتها بجرة قلم، أو بقرار تعسفي، بل يحتاج إلى ما هو أكثر تعقيداً بذلك بكثير، خاصة عندما يؤخذ ذلك في نطاق الصراعات الطائفية المحتدمة اليوم في منطقة الشرق الأوسط؟ سيجد النظام الجديد نفسه أمام خيارات إقليمية صعبة بين شد تحالفاته مع قوى دعمته خلال صداماته مع نظام الأسد، وأخرى تجذبه نحوها، وفي اتجاه مضاد معاكس، بقايا تحالفات النظام القديم، وهم قوة من الخطأ الاستهانة بها خاصة في المراحل الأولى من حياة النظام الجديد. 2. علامة الاستفهام ذاتها، سيجد من يستلم السلطة نفسه غير قادر على سهولة تجاوز خيارات الإجابة عليها. كيف سيدير النظام الجديد آلة علاقاته الدولية، بين قوى تطالب بمستحقات دعهما له في صداماته مع نظام الأسد، وكان لها مشاركات دعم مادية على الصعد كافة من أمثال فرنسا والولايات المتحدة، وأخرى وقفت، بشكل أو بآخر مع نظام الأسد، من أمثال الصين وروسيا؟ خيارات معقدة على الصعيدين الإقليمي والدولي تجعلنا نضع أيدينا على قلوبنا ليس تعاضداً مع الأسد، ولكن خوفاً من مصير قادم غير واضح المعالم، ومحفوف بالتحديات وأكثر منها المخاطر، يتربص بسوريا.