ربما يحاول البعض منا أن يغفر للعرب استحضارهم الذكرى الثلاثين لمذابح صبرا وشاتيلا لانشغالهم بالتصدي لمواجهة تحد فيلم “براءة المسلمين” الهابط، الذي تعمد الإساءة إلى الإسلام في شخص نبيه الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. لكن في حقيقة الأمر، أنه حتى لو لم تطرأ قصة ذلك الفيلم فربما كانت النتيجة واحدة، إذ سنكتشف أننا سنكون حينها منهمكين أيضاً في متابعة تطورات الأوضاع الساخنة في ساحات عربية مثل اليمن وسوريا وحتى مصر، فجميعها دون استثناء ما تزال تغلي بصراعات صاعدة تتفجر يومياً في أكثر من شكل منذرة بنتائج ومترتبات يصعب التكهن بنهاياتها، والخطورة التي تمثلها على مستقبل المنطقة العربية برمتها.
ما يحضر مشهد مجازر صبرا وشاتيلا في ذهن المتابع لمسرح العلميات العربية اليوم هو ذلك العنصر المشترك بينهما، وهو استعانة الواحد منا بالأجنبي الغازي الغريب ضد الآخر القريب، وهو أمر تم قبل ثلاثين سنة في مجازر صبرا وشاتيلا، وتكرر بالأمس القريب في ليبيا، ومن غير المستبعد أن نقرأ عنه قريباً في سوريا. يتناقض ذلك مع مثل نكرره يومياً، وربما ينم عن عصبية قبلية يقول “أنا وابن عمي على الغريب، وأنا وأخي على ابن عمي”، كناية عن كون التحالف يتناسب طردياً مع عمق رابطة الدم.
ففي تلك المجازر استعانت “القوات اللبنانية” ومعها حزب “الكتائب اللبنانية” بقوات الغزو الإسرائيلية أثناء تواجدها في لبنان بعد عملية الاجتياح التي تمت في يونيو 1982، ومن غير المستبعد أنها خططت بشكل مشترك معها لاجتياح ذلك المخيم وارتكاب تلك المجازر، متوهمة أن يقود ذلك إلى إنجاح مشروعها السياسي الذي لسنا بصدد الخوض في تقويمه هنا. المؤلم، وربما المنطقي أيضاً، أن القوات اللبنانية، ومن ورائها الحلفاء كافة الذين جمعتهم للمشاركة في تلك المجزرة، اكتشفوا، لكن في وقت متأخر جداً، ذلك التنافر بين ذلك المشروع والمشروع الإسرائيلي المعد للبنان، وكان أكبر دليل على ذلك التناقض تخطيط، ومن غير المستبعد مشاركة الموساد الإسرائيلي في عملية اغتيال زعيم القوات اللبنانية، بشير الجميل في عملية هي الأخرى بشعة، لكنها لم تصل في جرمها إلى ما بلغته مجازر صبرا وشاتيلا.
استطراداً للتحذير من مغبة الاستعانة بالأجنبي أثناء تلك المجازر، وهو أمر ربما لا يعرفه إلا القليل ممن كانوا في بيروت حينها، هو أنه بعد مضي أقل من أسبوع عليها سرت إشاعة في بيروت الغربية مفادها استعداد “القوات اللبنانية” لارتكاب مجازر أخرى في المخيم، وبفضل حالة الخوف والرعب التي زرعتها تلك المجازر في نفوس القلة التي نجت منها، شاهد أهل بيروت حينها منظراً بشعاً يصعب مسحه من الذاكرة، وهو هرولة أهالي المخيم من أطفال ونساء في حالة هستيرية نحو القوات الإسرائيلية، التي كانت حينها ما تزال مرابطة في المحيط القريب من المخيم مستنجدين (الأهالي)، تلك القوات (الإسرائيلية) الغريبة الغازية توفير الحماية التي كانوا في حاجة لها من تلك المجزرة المتوقعة.
لم تتكرر المجزرة حينها، فلم يكن الأمر أكثر من مجرد إشاعة، واكتفى الغازي الإسرائيلي بالزهو المصحوب بالشماتة عندما رأى الفلسطيني العربي، وكان كما قلنا مجبراً على ذلك جراء الحالة النفسية التي خلفتها تلك المجازر يلجأ له مستجدياً، حماية الحراب الإسرائيلية من رماح “القوات اللبنانية”.
تكرر المشهد في ليبيا قبيل تهاوي نظام الطاغية معمر القذافي، الذي ليس هناك من يأسف على سقوطه، لكن لم يتم ذلك دون الاستعانة بطرف أجنبي وهي قوات حلف الناتو، التي بدأت دولها اليوم، وقبل أن تجف دماء القتلى الليبيين من الطرفين، في المطالبة بحصتها في غنائم مشاركتها في ذلك الصراع. واكتشف الليبيون، ولكن للأسف الشديد وفي وقت متأخر أيضاً، إن أهداف دول الناتو ليست متطابقة، إن لم تكن متضاربة في كثير من جوانبها، مع أهداف الطرف الليبي المنتصر في ذلك الصراع. وليست الفواتير التي يسددها النظام القائم اليوم في شكل اتفاقات باهظة الثمن تندرج تحت بنود إعادة إعمار ليبيا، و«إعادة تأهيلها” كي تكون قادرة على مخاطبة المجتمعات الدولية، سوى الشاهد على ذلك التضارب في الأهداف بين المحلي والأجنبي الذي استعين به.
ينذر الموقف السوري المتأزم اليوم بحالة مشابهة لما جرى في ليبيا، ومن قبل في صبرا وشاتيلا، فيما يتعلق بالاستعانة بالأجنبي، حيث يحاول طرفا الصراع، نظام بشار الأسد من جانب والمعارضة بقواتها المسلحة المتعددة الأسماء من جانب آخر، الاستعانة بجهات أجنبية كي يستقوي الواحد منهما على الآخر، متوهمين كليهما، أن هناك تطابقاً بين مشروعات أي منهما مع الطرف الخارجي الذي يسعى لنسج التحالفات معه.
الهدف الوحيد المشترك بين أي منهما والطرف الأجنبي المتحالف معه هو قلب موازين القوى لصالح ذلك التحالف، بعيداً عن مصلحة سوريا أو شعبها الذي يدفع اليوم، وسيدفع في المستقبل ضرائب باهظة جراء ذلك النوع من التحالفات مع الأجنبي، بغض النظر عن الجهة التي سترجح كفتها بفضل ذلك التحالف. في نهاية المطاف سيكتشف الطرف المحلي المنتصر أن أهدافه ليست متطابقة، إن لم تكن كما ذكرنا متنافرة، مع تلك التي يسعى لنيلها حليفه المؤقت الأجنبي، لكن الظروف التي ستسود حينها لن تسمح له بإعادة عقارب الساعة للوراء، كي يغير الطرف المحلي ما وافق عليه في وقت سابق، والنتائج التي تمخض عنها.
من هنا، وإن كان للعرب من درس يتلقونه من تلك المجازر، هو أن نجاح الاستقواء بالأجنبي على طرف آخر محلي، في الوصول المشترك إلى الأهداف المحلية الحقيقية، هو حالات استثنائية في تاريخ نضالات الشعوب، وأن صمامات الأمان الوحيدة التي بوسعها أن تحول دون بروز ذلك التضارب الخفي مرتبط، وإلى حد بعيد، بموازين القوى في صفوف التحالف ذاته، ومتى ما اختل لصالح الأجنبي فمن غير المتوقع أن يوفر هذا الأخير ثانية واحدة من الوقت، يخسرها لصالح الأهداف المحلية التي لن تكون حينها متطابقة مع مشروعات الأجنبي الكامنة وراء مشاركته في ذلك الصراع المحلي، المتوثبة لنيل غنائمها من نتائج صراع شاركت فيه.
لذا لم يعد هناك من مبرر أن يبقى مفرد الاستقواء بالأجنبي على طرف محلي مهما اشتدت الحاجة ومهما سيقت التبريرات، مدخلا من مداخل قاموس العرب السياسي، وإذا ما اضطررنا لذلك فينبغي حينها أن ندرك أن ذلك هو استثناء مؤقت لا ينسف تلك القاعدة، ومن ثم فلابد من أخذ كل جوانب الحيطة والحذر الاستثنائية، ووضع صمامات الأمان الضرورية التي يمكن أن تساهم في تقليص الخسائر الوطنية، إذ يستحيل استئصالها، التي يمكن أن يتكبدها الطرف المحلي عندما يحسم الصراع لصالحه ضد الطرف المحلي الآخر.
رحم الله شهداء صبرا وشاتيلا، الذين ستذهب دماؤهم هدراً ما لم يستفيد العرب من درس مخاطر وسلبيات الاستقواء بالأجنبي.