المشهد السياسي في البحرين يذكرني بمقولة ذكرها الشاعر الأمير الراحل عبدالله الفيصل في مقابلة تلفزيونية حينما سأل المحاور الشاعر الأمير، سؤالاً مفاده: لماذا لم تعمل بالسياسة ولماذا ابتعدت عنها في وقت مبكر من حياتك العملية وأنت من نشأ وتربى في أحضان أسرة تتعاطى السياسية فوالدك الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز من السياسيين البارزين الذين عرفتهم الجزيرة العربية. فرد قائلاً: “لأن السياسة في رأيي وببساطة شديدة هي “فن الكذب” وأنا في الحقيقة لا يمكن لي أن أتعاطى مع هذا النوع من العمل وانسجم معه فتركته لغيري وانشغلت بأمور الشعر”.
إن المتأمل والمدقق في المشهد السياسي المحلي سوف يدرك مقاصد الأمير الراحل من وراء إطلاق هذا التعبير فهو لم يطلق هذا التعبير جزافاً، وإنما من واقع معرفته ودرايته وخبرته ببواطن الأمور، وهو لم يجاف الحقيقة ولم يتجاوزها في تعريفه للسياسة بهذا المعنى، ولم يذهب بعيداً في توصيفه للسياسة بأنها “فن الكذب” عن الواقع السياسي الذي تعيشه المجتمعات المعاصرة. إذاً كل الشواهد والدلائل تؤكد أن السياسيين في معظم دول العالم يمارسون السياسة ـ وفي أحايين كثيرة -وفقاً لتعريف عبدالله الفيصل رحمه الله، وإن حاولوا تغليفها بألفاظ وعبارات مثل: فن الممكن، أو أن السياسة- لا تحكمها الثوابت أي أنها متغيرة وتسير وفقاً للمصالح بمعنى أنها لا تخضع لمنظومة القيم وغيرها من المسوغات والمبررات التي تحفظ توازنهم النفسي.. وفي هذا السياق نجد أن “الوفاق” خير مثال يمكن طرحه للتأكيد على أنها تزاول هذه الحرفة باستخدام أقصى درجات الكذب وبإتقان في كل حراكها، وتتفوق على الآخرين في ممارسة هذا الفن، خصوصاً أن لديها كوادر تتمتع بالكفاءات العلمية والمهنية التي تساعدهم على استخدام اللغة السياسية ببراعة شديدة، والتي تسعفهم كثيراً في اقناع الآخرين بوجهة نظرهم، حتى وإن كانت غير مبنية على الحقائق ويشوبها الكثير من المغالطات.
والسياسيون في “الوفاق” يعرفون قبل غيرهم أنهم يكذبون، ولكنهم في الوقت ذاته مقتنعين بأن هذه السمة أحد متطلبات عملهم، ولذلك فهم لا يتحرجون من هذه الصفة، لكنهم لا يستخدمونها مع كل الشرائح والفئات الاجتماعية بنفس الدرجة، ولذا نجد أن الغالبية منهم لا يتوجه بكلامه وأحاديثه إلى النخب الثقافية والسياسية في المجتمع وإنما إلى أولئك الذين يعبر عنهم في أدبيات السياسة والإعلام بالكتل الصامتة في المجتمع. فهؤلاء عادة ما يمرر السياسي عبرهم آرائه وأهدافه إذ أن هذه الكتل غالباً ما تعجب بشخصيات سياسية معينة فيكون رأيها في مسألة سياسية أو قضية ما مطابقاً تماما لآرائهم في هذه المسألة أو تلك، وهناك أمثلة كثيرة تؤكد أن سياسيي “الوفاق” يمارسون هذا النوع من الفن، ويبدعون فيه لدرجة الإبهار، الذي يصل إلى حد أن المتلقي لا يشك لحظة واحدة فيما يذهب إليه هذا السياسي أو ذاك بل إنه يصدقه، ويدافع عنه وعن آرائه بحماس ويصل في بعض الأوقات إلى مرحلة تقديسه. ومن هذا المنطلق علينا ألا نستغرب إذا وجدنا أشخاصاً في مجتمعاتنا تحولوا إلى أصنام يعبدون.
أما عن المشهد الثقافي في البحرين، وعلاقته بالمشهد السياسي فنجد أن العلاقة سلبية، وهذا الوضع نختلف فيه عن العديد من الدول، إذ نجد أن النخب الثقافية والتي يفترض أنها أكثر وعياً وأكثر حصافة نجد أنها هي الكتلة الصامتة وهي بعيدة عن ما يجري في الساحة المحلية، إذ لم نسمع لها صوتاً حول ما يجري في الشارع من إرهاب وعنف وتعطيل لمصالح الناس، ولم نقرأ لأحد المثقفين ولو مقالاً واحداً في إحدى الصحف المحلية يبين فيه رأيه وموقفه حول ما يجري من أحداث مؤسفة، لا تمت إلى العمل السياسي بصلة، وليس لها سوى عنوان واحد هو: “الإرهاب في البحرين”. لذلك نقول إذا كانت هذه النخب كما يبدو لنا أنها آثرت الانسحاب من المشهد واعتبرته موقفاً، فإننا في هذه الحالة لا نجد تفسيراً لهذا الانسحاب سوى حالتين: إما أنها تقف على الحياد من الأحداث، وهذا في رأينا غير صحيح، إذ لا يجوز أن تتخلى هذه النخبة عن دورها وتجلس في مدرجات المتفرجين خصوصاً أن البحرين تعج بالمثقفين والسياسيين، وكان لهم دور بارز في تشكيل الوعي السياسي والاجتماعي في المجتمع البحريني، ومطلوب منهم أن يقولوا رأيهم في الجماعات التأزيمية. وإما أنها تؤيد تلك الجماعات وتخشى من الجهر برأيها وهذا قد يفضي إلى غضب السلطة عليها وتخسر بعض المميزات. أما الذي يثير الاستغراب في الأمر فهو أن وزارة الثقافة لاتزال تحتفي بالبعض من هؤلاء المثقفين وتروج لكتبهم ولدواوينهم وتفتح مجلتها “البحرين الثقافية” لنشر أعمالهم الأدبية والثقافية بالرغم من مواقفهم السلبية تجاه الأحداث في البحرين.
أخيراً نقول، أما آن الأوان أن تكسر النخبة الثقافية صمتها، وتعلن بأعلى صوتها عن موقفها بصراحة ووضوح، حيال ما يجري على الساحة المحلية .