عشية أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، كتب المفكر الأمريكي فرنيس فوكوياما في “الغارديان” البريطانية متسائلاً عما أسماه: “سر هذا الدفق الإرهابي المنبعث من المجتمعات الإسلامية، ومنطقة الشرق الأوسط تحديداً دون غيرها من مواقع العالم الأخرى، وما الذي يجعل هذه المنطقة من العالم قلعة عصية عن تمدد القيم الليبرالية العلمانية الحداثية”؟
وبالرغم من معرفته المحدودة بتاريخ المنطقة وأوضاع شعوبِها البالغة التركيب والتعقيد، يؤكد فوكوياما في إجابته عن السؤال: “أن الشعوب الإسلامية في جملتها لايزال بينها وبين تقبّل قيم الحداثة والتكيف مع متطلباتها حجاب كثيف” وذلك بحكم تشبثها بالقيم الدينية الصلبة، مما وفر أرضية مناسبة لتخصيب ما يسميه بالإرهاب، وما يسميه المسلمون بالجهاد، وإذا كان العلاج ممكناً من وجهة نظر فوكوياما فلابد أن يبدأ باجتراح مشروع إصلاح ديني يكون حاضناً لقيم الحداثة، ومجففاً لمنابع الإرهاب، نسجاً على منوال ما جرى في أوروبا القرن السادس عشر. لكن فوكوياما، بالرغم من أنه لم يجد غضاضة في استدعاء مقولة هنتنغتون حول صراع الحضارات، إلا أنه يبشّر قرّاءَه بأن النموذج الليبرالي مازال بخير وعافية، ولابد أن يغمر العالم في نهاية المطاف ويقهر ما بقي من مواقع الصد والممانعة “الأصولية” في العالم.
ولكن الأمر الذي خفي عن فوكوياما أنه ومنذ هجمات 11 سبتمبر الشهيرة كتب عدد من الساسة والمفكرين الاستراتيجيين الأمريكيين عن نهاية العالم، وعن صراع الحضارات، مستحضرين الصورة الإسلامية كعدو حضاري بديل عن الشيوعية المنهارة، وكأنما العالم الحر لا يستطيع أن يحيا أيديولوجياً بدون عدو، ومنذ ذلك الحين عمل الرئيس السابق جورج بوش على “معالجة” الأمور استناداً إلى نظام البلطجة العالمي، من خلال الحروب والاحتلال وبناء السجون على غرار أبي غريب وغوانتنامو، واستعراض القوة والتهديد بها، ونشر نظريات الاحتواء المزدوج، ولكن ومنذ مجيء الرئيس أوباما -الذي احتفظ باحتلال أفغانستان وبسجن غوانتنامو مع تعديلات سطحية- بدأ الأمريكيون يتوجهون إلى منطق نصح “الأصدقاء”، وهم بالصدفة عرب فقط، لتحقيق ما عجزت عن تحقيقه إدارة بوش الممتدة في الزمان من تغييرات تتماشى مع أحوال المناخ الأمريكي، والتدخل في الشأن العربي من خلال المراكز والمعاهد والتمويل لتتبع العرب، وهذه النصائح بشأن الديمقراطية والحريات تبدو كإملاءات وكتدخل مباشر في إعادة رسم الخرائط.
هذه النصائح والأفكار المسوقة أمريكياً حول الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والمرأة والإرهاب والتطرف الديني، يتم الزج بها عبر المراكز المتخصصة وعبر الدبلوماسيين وعبر استغلال واستمالة المعارضين وتدريبهم على كيفية معارضة الشرعية وإنهاكها وانتهاكها، استناداً إلى ذريعة الحريات التي جاءت عبرها ومن خلالها وبها يتدخل الأمريكيون لإسقاط هذا النظام أو ذاك، وهو تناقض وتضارب وخلط بين الحريات وإسقاط النظم في العقل السياسي والعسكري الأمريكي.
إن هذا التحليل يفضي بنا إلى القول إن الهدف الذي رمى الأمريكيون إلى تحقيقه من وراء حروبهم وتدخلاتهم “وهي التي كانت وراء أحداث 11 سبتمبر” لم يقضِ على الإرهاب، ولم يحجم إيران ولا كوريا الشمالية، كما تم الادعاء في حينه، بل جاء بنتائج عكسية، فقد قتل في أحداث الحادي عشر من سبتمبر أكثر من 3 آلاف من الأبرياء، إلا أنه ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم قتل من الأمريكيين في العراق وفي أفغانستان أضعاف هذا العدد، وقتل في العراق أكثر من مليون شخص، وقتل في أفغانستان عشرات الآلاف من الأبرياء، وفي شتى أنحاء العالم قتل عدة آلاف، كما إن نصائح الإدارة الحالية الديمقراطية، بدلاً من أن تسهم في إحلال السلام والحد من العدوانية الأمريكية المنتشرة، والتي حولت أمريكا إلى قوة الاحتلال الأُولى والرئيسة في العالم، فإنها تسهم في خلط الأوراق ونشر الفوضى، وتفكيك أواصر المجتمعات وإحياء النعرات الطائفية والقبلية فيها، تحت ذريعة الحرية والديمقراطية. إن الديمقراطية هي بالضرورة ثمرة من ثمرات كفاح الشعوب وجدلها مع واقعها ومع حكامها، وليست وصفة تحملها حقائب الدبلوماسيين أو الصواريخ العابرة للقارات، يوظفها الأمريكيون توظيفاً يلبي مصالحهم العابرة، توظيفاً يهين حق الشعوب في إدارة شؤونها بنفسها، وحل مشكلاتها بالطريقة التي تراها مناسبة لها ولواقعها.