من أجمل ما يكتبه الإنسان هو عن الوطن، الوطن الذي تربى على ترابه، وعندما يغادره بطيئاً يعود إليه سريعاً، واليوم تعيش البحرين احتقاناً سياسياً وسوءاً في الأوضاع، وأعجبُ من أولئك الذين يغردون خارج سرب الإجماع البحريني ويعرضون بضاعتهم التي أفسدتها المسافة التي بين الوطن وبين أي بقعة من خارج الوطن، فمن حق أي إنسان أن يكون مُعارضاً وأن ينتقد الدولة؛ لكن دون أن يضع وطنه موضع المساومة أو ثمناً لمطالبه السياسية.
ونتساءل لماذا هذا العرض المُستميت لقضايا الوطن في الخارج؟ ولماذا لا تكون مناقشتها في الداخل؟ فهل مِن القيم الوطنية ومِن فضائل النضال الوطني أن يتم تصدير قضايا الوطن إلى الخارج؟ ألا نستطيع أن نجلس معاً ونضع حلولاً ناجعة لمشاكلنا وأحوالنا في داخل الوطن أم أننا لا نرغب؟ وهل تستحق البحرين هذه المصائب؟ وهل قدر الشعب البحريني أن يعيش في دائرة الخوف وعدم الاستقرار الدائم؟ ألا يسمع أولئك عن الشركات والمؤسسات الأجنبية التي ترحل عن البحرين وتترك وراءها موظفيها من البحرينيين دون عمل؟ الدولة وأنصار الاعتدال الوطني يدعون إلى الحوار والالتفاف حول جهود التئام اللحمة الوطنية والآخرون يتوعدون بالمزيد من الحرائق ورمي العثرات في الطرقات؛ وقد يطول هذا التأزم السياسي أو يقصر.. لكن لمصلحة مَن؟ ومَن هو المتضرر؟ أليس من الأفضل أن يتم صرف الأموال التي يتم صرفها على استقرار الأوضاع والأمن في البلاد على مختلف الخدمات الأخرى من صحة وتعليم وإسكان وبيئة وبلديات؟
إن الوطن اليوم بحاجة إلى جميع أبنائه، والإنسان المواطن أيضاً يحتاج إلى وطنه، وكما يحتاج المواطن في وطنه إلى السكن والوظيفة والتعليم ومختلف الخدمات الأخرى أيضاً فهو يحتاج إلى الأمن والاستقرار، فالأمن والاستقرار هو أساس البقاء في الحياة. فالحروب والمعارك والنزاعات المُسلحة وظيفتها الموت والدمار والهلاك بينما الأمن يُضيف إلى الحياة حياة أخرى ويُجددها.
إن الأمن ليس فقط للدولة؛ بل أيضاً يحتاجه المنزل والمدرسة، والأمن لا يعني فقط القانون والشرطة بل هو حماية للوطن ولراحة واستقرار المواطنين، والقانون والشرطة هما من أدوات تحقيق الأمن. وبدل أن يتم إشعال فتيل الفتن وإنتاج الأزمات علينا جميعاً إحلال السلم وغرس المَحبة وإسعاد الناس من خلال غرس شجرة مثمرة وبفتح مدرسة للتعليم أو مستوصفاً للعلاج أو مصنعاً للإنتاج وتشغيل الأيدي العاملة.. ألا تستحق البحرين وشعبها هذا الفعل؟ لا أدري كيف يقبل أي إنسان أن يتعرض وطنه للخطر والمهانة وأن يجعله مادة دسمة للأعداء ويرتضي أن ينهشه الغير انتقاداً وانتقاصاً من شأنه ومكانته بين الأمم؟ ولماذا قست قلوب أولئك على وطنهم وعلى أبناء شعبهم حتى أصبحت كالحجارة بل أشد قسوة؟ حتى كأن أصحاب القلوب القاسية من عالم آخر ولا ينتمون إلى إنسان؟
لقد عرفت البحرين قديماً بأنها وطن الأوطان، يعيش فيها الجميع بعلاقة حميمية نقية وصادقة بعيدة عن البغضاء والشحناء، لكن البحرين اليوم تعيش في الزمن الغريب.. غريباً عليها وعلى شعبها وعلى تاريخها، زمن الغلو والتطرف الديني الأعمى، والغزو الفكري المناقض لسماحة أديان السماء وقوانين البشر، زمناً ضعفت لدى البعض القيم الوطنية والأخلاقية، واستبدلت فيه المودة بالفجوة، زمن تطمس فيه الحقائق وتشوه فيه الفضائل، زمن أدخل التنافس من أجل منعة وعزة الوطن إلى إدخال الوطن في صراع يُدمر البلاد ويُفرق بين العباد.
إن مَن يخلص لوطنه ويحبه أكثر من غيره سيتجاوز الصعاب ويُحقق الازدهار والتقدم لوطنه والرخاء والنعيم لشعبه، وكل ما يحتاج إليه الوطن اليوم هو أن تستقر الأمور كعهدها السابق، ويغلب الأمن الخوف، ودون السلام تتلاشى جميع الآمال وتنكسر الأحلام. فملثما نحن نحتاج إلى البحرين كوطن لنا، تحتاج البحرين إلى مواطنين يحبون وطنهم. ومن يحب وطنه لابد أن يشارك في البناء، لا أن يكون معولاً للهدم، نحتاج إلى وطن خالٍ من الفساد، خالٍ من التقاطعات الطائفية والأفكار الهدامة، وطن يبني أجيالاً سلاحها العلم والثقافة والتكنولوجيا، أجيالاً ذات عقول مستنيرة منفتحة على كافة ثقافات الشعوب الأخرى، أجيال تبني لا تهدم، أجيالاً تحقق الأمن والسلام ولا تروع مواطنيها، أجيالاً تضيف إلى الوطن مكتسبات سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية إلى ما حققه هذا الوطن من مكتسبات.
أنت أيها الوطن البحريني العزيز تملك من قوة الصبر على عقوق بعض أبنائك، ولدى قلبك مساحة تتسع للجميع، وأعلم أنك أيها الوطن لو أنك فقدت حِلمك عليهم لن يجدوا وطناً غيرك يحبهم ويؤويهم ويَحميهم.. لذلك.. فأنا أحبك أيها الوطن.. فهل هناك أجمل من الوطن؟ حفظك الله أيها الوطن العزيز.