إذا اتفقنا على أن طريق اللجنة الرباعية، موضوعياً وبغض النظر عن نوايا أعضائها، مسدود، وأن احتمال خروجها بحل حقيقي للأزمة السورية ضئيل إن لم يكن مستحيلاً، فما هو مبرر تشكيلها، وما هي الدوافع التي جعلت الرئيس المصري محمد مرسي يدعو لها، ويغري الآخرين بالاستجابة لتلك الدعوة، بل ويبدون الكثير من الحماس لها؟ لاشك أن هناك سبباً رئيساً مشتركاً يجمع أربع عواصم على قضية، تصبح، طالما وافقوا على المشاركة في اجتماعات اللجنة، بنداً يتبوأ موقعاً، مهماً، إن لم نقل متقدماً، في اهتمامات كل منها. سوية مع ذلك العامل الرئيس، هناك أيضاً من الدوافع الثانوية.
بالنسبة للعامل الوحيد المشترك الذي يمكن أن يكون وراء كل ذلك، هو خوف تلك العواصم، بما في ذلك مصر بعهدها الجديد الذي أوصل جماعة “الإخوان المسلمين” إلى الحكم بعد الإطاحة بنظام حسني مبارك، وإيران التي دخلت ثورتها العقد الرابع من العمر، من أي تغيير محتمل. فكل من تلك العواصم، يحاول، دفاعاً عن نفسه أساساً، وأن يضمن حصر الصراعات المحتمل نشوبها في أية لحظة داخل حدود بلاده، ويحول بالتالي دون نيلها أي شكل من أشكال الدعم الخارجي، الذي تفرضه عوامل أخرى، البعض منها ديني، والآخر عرقي، دون أن نستثني المستحقات السياسية الإقليمية. ليس المقصود هنا الاتفاق على وضع صمامات أمان تحول دون أي تغيير، بقدر ما هو تحييد كل عاصمة تجاه الأخرى عندما تهب على أي منها مثل تلك الرياح. وفي سياق هذا الهم المشترك الخفي، يتفاعل أيضاً شعور العواصم الأربع بأن دولاً خارجية مثل روسيا والولايات المتحدة، على أبواب البحث في إعادة رسم خارطة جديدة للشرق الأوسط، وكل من تلك العواصم، يريد أن يعرف ما هي حصته عند تقسيم الكعكة الشرق أوسطية في تلك الخارطة، وأن يقلص في هذا السياق، احتمال استبعاده منها في غياب حد أدنى من الاتفاق بين الأطراف المحلية التي تمثل تلك العواصم، إضافةً إلى تل أبيب، القوى الأكثر تأثيراً في سياساتها، على الحصة الفردية لكل منها.
لكن بعيداً عن ذلك العامل المشترك، هناك هموم الملفات الثنائية أو الثلاثية الساخنة، المرافقة له، أو المنبثقة عنه، والتي تسعى كل دولة من أعضاء اللجنة أن تتوصل إلى اتفاق بشأنها مع نظيراتها الأخرى. إذاً تحت عباءة الدعوة العلنية العامة وهي معالجة الأزمة السورية، تقبع الملفات الخفية التي حملها كل وفد على انفراد كي يتسنى له وضعها على طاولة نقاشات تلك اللجنة الرباعية.
ويمكن البدء بمصر، والتي تريد أن تقول للجميع، إن نظامها الجديد مختلف عن ذلك الذي عهدوه إبان حكم مبارك، وعلى وجه الخصوص في تعاطيه مع القضايا الإقليمية، وفي المقدمة منها العلاقات المصرية الإسرائيلية، التي يتوقع لها أن تلتهب في الفترة القريبة القادمة. يريد مرسي، أن يتجاوز الفخ الذي وقع ضحيته السادات، عندما ذهب إلى تل أبيب منفرداً، بعد سلخ نفسه من الكتلة العربية، كي يضمن وقوف دول الشرق الأوسط، حتى اللفظي، فيما لو حاولت إسرائيل الضغط على القاهرة، لضمان استمرارها في نهج القاهرة منذ توقيع اتفاقيات السلام معها. لا يعني ذلك تنصل مصر من التزاماتها، لكنه أيضاً يعطيها هامشاً أوسع للمناورة، لمواجهة أي ضغوط مباشرة محتملة من قبل تل أبيب، أو غير مباشرة من جهة واشنطن. على نحو مواز تحاول القاهرة انتزاع موافقة من الجميع تمدها بشيء من الاستقلالية التي هي اليوم في أمس الحاجة له. ويمكننا هنا الاستعانة بالعلاقات المصرية الإيرانية التي تدهورت في عصر مبارك، ويحاول مرسي أن يستعيد نسبة عالية من المفقود منها، كي لا يحرم من حقه في الحصول على النفط الإيراني. كذلك الأمر عندما يتعلق الأمر بالخلاف الداخلي المحتدم بين جماعة الإخوان المسلمين الذين يمثلهم مرسي، والجماعات السلفية التي يعتقد مرسي أنهم يحظون بدعم من الرياض، وهو ما يحاول أن يضع حداً له، كي ينتقل إلى الملف الخفي الثاني، وهو الحصول على دعم اقتصادي، عبر مجموعة من الاتفاقات الاستثمارية الثنائية، مع أي من الدول الثلاث الأخرى.
ومن مصر ننتقل إلى إيران، التي، بخلاف سوريا، يصعب الحديث عن صديق عربي ذي ثقل سياسي في منطقة الشرق الأوسط. بل ربما هناك عداوات أدت إلى تدهور العلاقات بينها وبين الكثير من العواصم العربية، وعلى وجه الخصوص الخليجية منها. تخشى طهران اليوم، أن تنتقل من مواقع الهجوم الذي زودها به المد الشيعي في المنطقة، إلى خنادق الدفاع، فيما لو استخدم الجانب العربي السلاح القومي في المناطق العربية من طهران، وهو أمر لا يسقطه النظام الإيراني من حساباته، خاصة إذا ما قرأ العلاقات الإيرانية العراقية خلال فترة الشاه – البعث العراقي. لذلك من الطبيعي أن تضع إيران ملفها الخفي على طاولة المفاوضات كي تعالج الخوف الخليجي من المد الشيعي المدعوم إيرانياً، وتقلص الخطر العربستاني المحتمل حصوله على الدعم العربي. هنا لابد من التحذير من فخ التبسيط الذي يحول الحراك الشيعي إلى مجرد استجابة ذيلية للاستراتيجية الإيرانية الشرق أوسطية، أو يربط مصير حقوق الشعب العربستاني بالدعم العربي.
بعد تلك العاصمتين، نصل إلى الثالثة وهي تركيا، التي تبحث اليوم عن دور شرق أوسطي مميز، تعترف به تلك العواصم. وبتنا نسمع عن طموح تركي لاستعادة أمجاد الدولة العثمانية. ستسعى إسطنبول أن تقلص عوامل الاحتكاك التي بدأت تلوح في الأفق بينها وبين القاهرة من جهة، وأن تصل إلى اتفاق بشأن الحركة الكردية مع طهران، من جهة ثانية، وفي نهاية المطاف أن تبلغ، أيضاً، إلى تفاهم أولي على توزيع الأدوار بينها وبين الرياض.
نصل في نهاية المطاف إلى الرياض، وجعبتها مليئة بالملفات الخفية التي هي بحاجة إلى التوصل إلى اتفاق بشأنها مع العواصم الثلاث. فهناك الملف الخليجي الذي تريد أن تطوي صفحاته بالتراضي مع طهران، ليس بشكل تكتيكي مؤقت، وإنما على نحو استراتيجي طويل الأمد إن أمكنها ذلك. كما إنها ترغب في تسوية العلاقات مع مصر وتنظيفها من أية شائبة ممكنة، بما فيها المعتقلين المصريين في السعودية، وهي قضية على صغرها، لكنها ملتهبة، وبحاجة إلى حل سريع.
تلك كانت الملفات الخفية التي تناولتها العواصم الأربع، التي حتى وإن فشلت في التوصل إلى حلول بشأنها، لكنها بطبيعة الحال، وضعت أقدامها على طريق تلك الحلول. كل ذلك لا يعني استبعاد الأزمة السورية، لكنها لم تكن أكثر من الغطاء، الذي لابد من تناوله كي تكتمل الصورة، وتبرر الدعوة، ويتم اللقاء.