تفاوتت، وهو أمر طبيعي ومتوقع بسبب التعقيدات التي وصلت لها الأزمة السورية، ردود الفعل من تقديم المندوب العربي والدولي لحل المشكلة السورية كوفي عنان استقالته. فبينما أبدت سوريا، وهي أكثر الأطراف المعنية بهذه المهمة، عبر بيان أصدرته وزارة خارجيتها عن أسفها، لنبأ الاستقالة، مشيرة إلى أنها “طالما أعلنت وبرهنت عن التزامها التام والكامل بتنفيذ خطته ذات النقاط الست وتعاونت مع فريق المراقبين في تحقيق المهمة المرجوة، لكن على الدوام كانت الدول التي تستهدف زعزعة استقرار سورية والتي وافقت وصوتت لصالح الخطة المذكورة في مجلس الأمن الدولي هي ذاتها الدول التي عرقلت ومازالت تحاول إفشال هذه المهمة”، اعتبر رئيس لجنة الشؤون الدولية بمجلس الدوما الروسي (المجلس الأدنى في البرلمان) اليكسي بوشكوف “أن استقالة المبعوث الدولي كوفي عنان تعني فشل خطة التسوية السلمية في سورية، وتحول النزاع في البلاد إلى حرب أهلية واسعة النطاق”. جاء ذلك بعد أن أبدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أسفه لاستقالة عنان، واصفاً إياه بأنه، “رجل محترم جداً، دبلوماسي ممتاز ورجل متواضع جداً”. مقابل ذلك وجدنا الخارجية البريطانية، بعد أن تشيد بجهود عنان، تعود كي تحمِّل “النظام السوري مسؤولية تعثر خطة السلام لفشله في الالتزام بتعهداته ومواصلة القمع الوحشي للشعب، (معربة) عن تفهمها لأسباب إحباط عنان، مشيرة إلى أن الانقسام في المجتمع الدولي لم يوفر للمبعوث العربي والدولي ما يحتاجه من دعم”، مضيفة كما جاء على لسان رئيس وزرائها ديفد كاميرون “إن استقالة عنان تؤكد أن العملية الحالية غير ناجحة”. في المقابل، ألقى المتحدث باسم البيت الأبيض جاي كارني باللوم “على روسيا والصين لاستخدامهما حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن ضد قراراته بشأن الأزمة”.
قبل قراءة الخلفيات التي دعت عنان إلى تقديم استقالته من منصبه الذي تولاه في فبراير 2012، في أعقاب وصول الأزمة السورية إلى طريق مسدود منذ اندلاعها قبل عام ونيف، لا بد من الإشارة إلى أن مفعول الاستقالة يبدأ في نهاية شهر أغسطس الحالي، ومن ثم، فما يزال هناك بصيص أمل في أن يعدل عنان عنها، فيما لو تغيرت الظروف، طبقاً لتحولات محتملة في موازين القوى على الأرض، وفيما عدا ذلك، فإن عنان يعتبر القبول بالمهمة، حتى من شخص آخر سواه، “ضرباً من الجنون”.
من المنطقي أن تدعو استقالة عنان، الدول الضالعة في مشروعات حل المعضلة السورية ، من أمثال الدول الأعضاء في مجلس الأمن، أو الدول العربية القريبة من تلك الأزمة، إلى البحث عن بدائل، ليس على صعيد من يخلف عنان في مهمته فحسب، وإنما من بوسعه أن ينفذ المشروع الأكثر قابلية للتحقيق على أرض الواقع، إذ ليس من المنطق في شيء استمرار الحالة السورية على ما هي عليه اليوم، فموقع سوريا الاستراتيجي، وانغماسها المباشر في صلب الأوضاع اللبنانية، والحيز الذي لاتزال تشغله في خارطة الصراع العربي - الإسرائيلي، وتحالفاتها الإقليمية مع دول مثل إيران، وعلاقاتها التاريخية مع دول مثل روسيا والصين، كل هذه العوامل تدفع بالتعجيل لحل تلك الأزمة، أو كحد أدنى حقنها بحل ينجح في تخديرها لفترة كافية، تبيح الخروج بحل استراتيجي طويل الأمد. فسوريا ليست لبنان التي كتب عليه إطالة عمر أزمته بدلاً من وضع حد لها، فوجدناه يعيش حرباً أهلية، بين مد وجزر منذ اندلاع الصدامات العسكرية، إثر اغتيال معروف سعد في صيدا في فبراير 1975، وحادثة “البوسطة الفلسطينية” المشهورة في 13 أبريل من العام ذاته.
رغم ردود الفعل الدولية المتباينة، يشتم من بين ثنايا أوراق استقالة أنان رائحة الأصابع الأمريكية الخبيثة، التي يبدو أنها لم تعد قادرة على استمرار الأزمة السورية على ما هي عليه الآن، لأنها تساهم في تعطيل إعادة رسم خارطة منطقة الشرق الأوسط، بما يفسح في المجال أمام واشنطن لاستعادة شيء من زمام المبادرة والنفوذ اللذين فقدتهما بسبب تدهور سياساتها تجاه دول المنطقة، وأبرزها العراق. فقد ازداد اهتزاز السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، ومن ثم مصالحها التي بات مهددة بعد أن زعزعت ركائزها السياسية والبشرية الأحداث التي عرفتها دول مهمة فيها مثل مصر ولييا وتونس، وأخيرا وليس آخرا سوريا، المصاحبة لتردي الأوضاع في العراق، وبداية تسلل إسطنبول، التي بدأت تدس أنفها عبر كردستان، وهو أمر تؤكده تلك الزيارة المفاجئة، والمتجاوزة للأعراف الدبلوماسية، التي قام بها مؤخرا وزير الخارجية التركية احمد داوود أوغلو إلى مدينة كركوك ، والتي اعتبرتها بغداد “انتهاكاً لسيادة العراق واستمرار للتدخل التركي في الشؤون العراقية الداخلية”. لكن أوغلو بعث برسالة مهمة للحكومة المركزية في بغداد ، وصف فيها الزيارة بأنها “مهمة نظراً لتطورات الأوضاع في سوريا وتأثيراتها على المنطقة الحدودية المشتركة بين البلدان الثلاثة”. لذا يأتي إبعاد أنان، بدفعه للاستقالة كي يفتح بذلك الأبواب للمزيد من التدخل الأمريكي في الشأن السوري في اتجاه حسم سريع للأزمة، ليس من المستبعد أن يصل إلى مستوى التدخل المباشر المستند إلى قوة ضاربة داخلية سورية، ربما لن تكون محصورة في نطاق المعارضة الحالية، بما فيها “جيش سوريا الحر”، فلأمريكا أصدقاء داخل المؤسسة الحاكمة في سوريا، بما فيها الجيش النظامي، ممن لديهم الاستعداد للتعاون مع واشنطن، فيما لو مدت هي يديها لهم. يضاعف من حظ هذا الاهتمام والاستعداد الأمريكيين، في اتجاه خطوة تبيح لواشنطن حسم الأمور وعلى نحو سريع، توقيع الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، قبل أيام، وفق ما أدلت به مصادر أمريكية مطلعة لـمحطة “سي إن إن” الأمريكية، “على أمر وصف بـالسري يبيح لواشنطن متى أرادت تقديم دعم لمقاتلي المعارضة السورية”، يأتي ذلك كما يقول موقع “سي إن إن” كخطوة تلبي “دعوات تطالب واشنطن بتسليح المعارضة”. تعتبر هذه نقلة نوعية في الدور الأمريكي الذي كان حتى يومها يحصر مساعداته للمقاومة السورية في شكل معدات “غير فتاكة كأجهزة الاتصالات قدرت قيمتها بحوالى 25 مليون دولار”. يحقق المزيد من التدخل الأمريكي السافر، أو من خلال قوى سورية، هدفين أساسيين أمريكيين: أولهما إخراج حل الأزمة السورية من بيرورقراطية الأمم المتحدة، التي تشلها “فيتوات” مجلس الأمن التي لم تكفَّ عن ممارستها دول أعضاء مثل روسيا ومعها الصين، وتضعها كلياً في يد الولايات المتحدة، وربما أيضاً حلفاؤها من دول “الناتو”، التي بوسعها (واشنطن)، متى ما حققت ذلك، التحكم في زمن وآليات حسم الصراع، وفقاً لرؤيتها هي، دون مشاركة الآخرين، أو حتى انتظارهم. الثاني، وهو الأهم، ضمان واشنطن نيلها أكبر حصة عند تقسيم المغانم والمكافآت من دول عربية وعالمية يهمها جميعاً حسم الصراع في سوريا، وعلى أيد أمريكية، والتي لن تكون - تلك المغانم - محصورة، في الساحة السورية، بل من الطبيعي أن تمتد كي تشمل الشرق الأوسط برمته. ينبغي أن لا يقودنا ذلك إلى استنتاج سريع يقوم على إسقاط حكومة بشار الأسد، فهناك أكثر من سيناريو للوضع السوري. فالمقصود توضيح تلك العلاقة المموهة بين الاستقالة والأصابع الأمريكية الباحثة عن حل يمكنها من إطباق يدها على الأوضاع في سوريا