«كل ما هو واقعي عقلاني، وكل ما هو عقلاني واقعي”.. الفيلسوف الألماني هيغل
المتابع لتحركات وتصريحات صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد على الساحة المحلية فيما يتعلق بالأزمة التي ماتزال تلقي بظلالها على مملكة البحرين يلمس اعتماد سموه منهجية طويلة النفس، مبدئية، تجميعية، تجمع ولا تفرق، تدعو إلى التصالح والوحدة وضرورة التعامل بحنكة وموضوعية مع الأزمة من خلال الأفكار والرؤى البحرينية الخلاقة والوطنية، ورفض الأفكار الدخيلة على الوطن والمجتمع معاً، ويمكن رصد أبرز ملامح هذه المنهجية ودلالاتها السياسية:
أولاً: الاتجاه بالخطاب السياسي والإعلامي إلى جميع الأطراف في ذات اللحظة، كمواطنين بحرينيين، بما يجعل الخطاب وطنياً جامعاً، لا يحمل طرفاً واحداً المسؤولية عن الأزمة وإنما يحمل الجميع المسؤولية على حلها.
ثانياً: حث الجميع -وفي مقدمتهم المعارضة- على الانخراط في الحل المحلي، مع التأكيد أن الانطلاق للمرحلة المقبلة يبدأ من احترام القانون والمؤسسات الدستورية القائمة، وأن الإصلاح عملية مستمرة يشارك فيها الجميع ويستفيد من ثمارها الجميع.
ثالثاً: التأكيد على حتمية التوافق الوطني والوحدة الوطنية وأن الحلول يجب أن تراعي مصلحة جميع الأطراف، بمن فيها المعارضة، وأن البلد لا يمكن أن تنطلق إلا بقوى جميع البحرينيين شيعة وسنة وأقليات مجتمعين.
رابعاً: إن تنوع المجتمع البحريني اجتماعياً وطائفياً وسياسياً، يجعل الاحترام المتبادل فرضاً على الجميع، والقبول بهذا التنوع فريضة، حيث يجب أن تكون العقول والقلوب مفتوحة دوماً لسماع الجميع ممن يريدون خير الوطن وأبنائه.
خامساً: إن أي حل مستقبلي يجب أن يكون في سياق الإصلاح والديمقراطية والعدالة والاستدامة وتكافؤ الفرص بين أبناء الوطن، في سياق مضاد للحلول الإقصائية والانتقامية التي يطرحها البعض..
تأتي هذه المنهجية وتعزز يوماً بعد يوم، في إطار العقلانية السياسية التي تجسدها الرغبة في استعادة وحدة المجتمع والبدء في حوار وطني عقلاني يخرجه من حالة الانقسام والتجاذب، وهذه العقلانية في السياسة تراهن على؛ التوافق والوحدة، والتدرج في إيجاد الحلول السياسية، والتعايش السلمي مع الاختلافات التي تعتبر مصادر إثراء، والاحتكام للحوار الوطني في جميع الأحوال، ورفض التعامل مع الخارج الذي يسهم في خلط الأوراق وتأخير الحل. هكذا يكون الحل في توفير الشروط اللازمة التي تجعل السياسي يتفادى الوقوع في مصيدة اللاعقلانية ويكف عن تصدير الأوهام ولذلك تستدعي هذه المنهجية أساساً عقلانياً للحل، بضرورة توافر تصور توافقي لمفاهيم المصلحة الوطنية، بإسهام الفعاليات السياسية والاجتماعية من أحزاب ومجتمع مدني في التأثير في صناعة السياسات العامة واتخاذ القرارات بتحولها لمصادر خيارات سياسية من أجل تحسين الأداء الوظيفي والسياسي لنظام الحكم، بالاعتماد على تقديم الكفاءة السياسية والحنكة.
منذ الأزمة التي شهدتها البحرين في فبراير 2011م وحتى صائفة 2012، كانت منهجية ولي العهد ثابتة وواضحة تحمل رسائل إيجابية قابلة -في حالة خروج الجميع من حالة التخندق- على المساعدة على التوجه في طريق المصالحة الوطنية وطي ملف الأحداث واستعادة زمام المبادرة محلياً، فما فتئ سموه يقدم المخارج الجادة والهادئة في كيفية تجاوز تداعيات أزمة، وهذا لن يحدث بدون كسر جليد الجمود في العلاقات الاجتماعية قبل العلاقات السياسية، وقد لاحظ الجميع هذا التوجه عملياً من لقاءات سمو ولي العهد في مجلسه الأسبوعي أو من خلال برنامج زياراته إلى المجالس الشعبية، فالتواصل بين الحكم والشعب، بين الدولة والمجتمع، هو المحدد الرئيس لهذه المنهجية، على أن يكون هذا التواصل محكوماً بما يعصم من الجهل والهوى. وليس، في السياسة، ما يعصم من الجهل والهوى سوى القانون، حين يسري على القوي والضعيف وعلى الغني والفقير وعلى الحاكم والمحكوم. والقانون، سواء في صفته العامة والمجردة أو في تجسده الواقعي، في الدساتير والمدونات القانونية، لأنه تسوية بين قوى متعارضة ومصالح متباينة، وأولوية المصلحة الوطنية العامة التي لا يجوز أن تنفرد في تحديدها فئة بعينها، فتقيسها بمقياس مصلحتها الفئوية.
إن هذه المنهجية التي يعتمدها سمو ولي العهد، سواء في الرؤى والأفكار والتصريحات التي يدلي بها أو في اللقاءات التي تجمعه بالمواطنين وبالفاعلين السياسيين على الأرض وبالعوائل والشخصيات المؤثرة، تتسم بالتوازن وبالحد المطلوب من المنطق والاقتراب من المعاني التي توحد المواطنين في مواجهة التطرف والكراهية، وامتلاك الوعي المطابق لحاجات الواقع وعدم تغليب المصلحة الفئوية الضيقة على المصلحة الوطنية المشتركة والعمل على بناء القرار السياسي على أسس عقلانية واقعية وليس على الأوهام. ولكن كل هذه الجهود وهذه الرسائل الإيجابية إذا لم تتلقها الأطراف المعنية -وعلى رأسها المعارضة- على النحو الإيجابي لتحولها إلى قوة دفع نحو الحل والخروج من حالة الاستقطاب التخندق والإصرار على طلب الأقصى ورفض الحلول الواقعية المتدرجة، لن تكون مجدية.
همس:
«علينا دوماً أن نبحث في الإنسان قبل أن نبحث في الأحداث، فكما يكون الإنسان تكون الأحداث، وليس كما تكون الأحداث يكون الإنسان. إن الوطن أعز من أن يهدموا وحدته بدعاوى التعصب. وإن المستقبل يصنعه القلم لا السواك، والعمل لا الاعتزال، والعقل لا الدروشة، والمنطق لا الرصاص. والأهم من ذلك كله أن يدركوا حقيقة غائبة عنهم، وهي أنهم ليسوا وحدهم جماعة المسلمين. وليس هناك خطوط حمراء غير خطوط الدم الإنساني.” الدكتور محمد عابد الجابري