هذا القول المستخدم في الغرب “Opening a can of warms “، أي فتح علبة ديدان، غالباً ما يستخدم كناية عن تشريع شخص ما الأبواب أمام مجموعة من المخاطر وربما الأعداء، ينطبق على الخطوة التي أقدم عليها الرئيس المصري محمد مرسي قبل يومين، عندما “أعلن إحالة وزير الدفاع المشير حسين طنطاوي ورئيس أركان القوات المسلحة الفريق سامي عنان إلى التقاعد، وأصدر إعلاناً دستورياً جديداً منح نفسه بموجبه سلطة التشريع”، التي كانت – السلطة التشريعية - حتى لحظة الإعلان من اختصاصات المجلس العسكري.
أول ما يرد على بال من سمع بذلك الإعلان هو أن الأمور بين مرسي وطنطاوي قد وصلت إلى درجة من التناقض تمنعهما من التعايش للخروج بمصر من المرحلة الانتقالية التي دخلتها بعد ثورة الـ 25 من يناير. يفسر تلك الخطوة أنهما وجدا نفسيهما أمام احتمالين لا ثالث لهما، فإما أن يكون طنطاوي، وتحالفاته مع مراكز القوى في النظام السابق قد أحسوا جميعاً، بأن تشكيلة الحكومة، حتى قبل أن يقال منها طنطاوي وزميله عنان، أخلت بموازين القوى لغير صالحهما إلى درجة لم يعودا قادرين فيها على التعايش معها، فراحا يمارسان بعض الضغوطات، وربما الاستفزازات التي تشل من حركة مرسي، فبادر إلى وضع حد لها من خلال تلك الإقالة التي اعتبرها البعض مباغتة، وإما، وهذا الاحتمال الثاني، أن يكون مرسي ذاته هو الذي اكتشف أن تحالفاته التي نسجها مع مراكز القوى تلك، خلال فترة حملته الانتخابية، لم تعد تعمل لصالحه، وإنها تعيق حركته، وربما تنجح في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، الأمر الذي من شأنه، ليس تهديد برامجه، فحسب، بل ربما تصل المسائل إلى ما هو أسوأ من ذلك، وتمس نظام مرسي بكامله.
كلا الاحتمالين صارا في ذمة التاريخ، وربما يكون مرسي قد نجح في توجيه ضربة موجعة للمجلس العسكري وتحالفاته حققت له شيئاً من الفوز، لكن ذلك الفوز، لا يعدو كونه، عندما تقرأ معالمه بتمعن، فوزاً مؤقتاً في معركة محدودة حربها واسعة، وربما تكون طويلة الأمد، فتح جبهاتها مرسي، الذي سيكتشف بنفسه أنه بهذه الخطوة بات عليه أن يشن حروباً متواصلة متوازية على أكثر من جبهة، وأولها تلك التي تتخندق فيها مراكز قوى بقايا النظام القديم، التي كشرت عن أنيابها حتى قبل تلك الخطوة، وعبرت عن عدم رضاها من سياسات مرسي في أكثر من مناسبة وأكثر من موقع. على سبيل المثال لا الحصر، هناك “تعرض قسم شرطة ثاني العريش على ساحل البحر، لإطلاق رصاص كثيف من قبل مسلحين مجهولين، مساء الأحد الماضي”. وكان هناك أيضا انقطاع الكهرباء عن أحياء القاهرة استمر لساعات، والذي وصفه الكاتب صلاح بديوي أنه “أمتد إلى غالبية الأحياء المهمة والحيوية فيها، وبشكل لم تشهده عاصمة المعز، ربما في عصرها الحديث”. وألمح بديوي إلى تلك الحملة الإعلامية التي قامت بها، حسب قوله “وسائل إعلام الفلول بهدف إظهار الرئيس الدكتور محمد مرسي بأنه فاشل وعاجز على تحقيق برنامجه الانتخابي، مضيفاً “إذن هي خطة يضعها الفلول للتآمر على مؤسسة الرئاسة ومؤسسات الثورة المنتخبة في وطننا بشكل عام”.
ثاني الخصوم التي استفزها الرئيس، خاصة أن إعلان الإعفاء، ترافق أيضاً مع “إلغاء الإعلان الدستوري الصادر في 17 يونيو 2012، واستبدال نص المادة 25 فقرة 2 من الإعلان الدستوري الصادر بمارس 2011 بحيث يوفر للرئيس ممارسة كافة الاختصاصات التي احتفظ بها المجلس العسكري، وهي التشريع وإقرار السياسة العامة للدولة والموازنة العامة”، هي القوى السياسية المدنية التي اعتبرت الأمر بمثابة تركيز السلطة في يد جماعة الإخوان، واستبعاد القوى السياسية الأخرى، بما فيها تلك البعيدة عن “فلول النظام القديم”. هذه المعركة بدأت قبل “إعلان الإعفاء”، عندما ظهرت يوم الخميس 9 أغسطس، في “3 صحف مصرية مستقلة مساحات بيضاء للتعبير عن احتجاج عدد من الصحافيين على محاولات الإخوان المسلمين السيطرة على الصحافة ومؤسسات الإعلام المملوكة للشعب”. ويأتي هذا الاحتجاج “غداة إعلان مجلس الشورى تعيين رؤساء مجالس إدارة ورؤساء تحرير جدد لهذه الصحف”. وجميع هذه الصحف محسوبة على تيارات مدنية مختلفة، لكنها بعيدة عن قوى الإسلام السياسي المصري.
ثالث أولئك الخصوم، هي الكنيسة القبطية، التي بدأت تتوجس خيفة من خطوات مرسي، وباتت ترى فيها نوعاً من “الاستحواذ الإسلامي” على السلطة، وفي الوقت ذاته إبعاد للحضور السياسي للأديان الأخرى، بما فيها الكنيسة القبطية. جاء ذلك واضحاً على لسان النائب البرلماني السابق محمد أبو حامد، الذي دعا “الأقباط، للمشاركة في مليونية 24 أغسطس، التي تُعرف باسم إسقاط الإخوان”، مضيفاً في خطاب موجه لشباب كنيسة “القديس مار مرقس” بعزبة النخل، “لقد بدأت الجماعات الدينية التي تسمي نفسها بالإسلام السياسي بعد أسبوع، ترفع مطالب دينية لم تكن موجودة من قبل. إن هوية مصر مصرية، ولكننا فوجئنا أن الجماعات قالت إن مصر إسلامية بما يخلق صراعًا بين الهوية الدينية والوطنية”.
رابع الخصوم ممن سوف يوقظها “إعلان الإعفاء” هي من صنع مرسي ذاته، وهي خطته الاقتصادية ذات “المائة يوم”، التي تمحور حولها مشروعه الانتخابي، والحملات الدعائية التي رافقته، والتي يبدو أن الحالة الاقتصادية المصرية لن تعينه على إنجازها. فبعيداً عن تراجع أوضاع البورصة المصرية التي تواصل خسائرها، هناك أيضاً التراجع الذي يشهده أحد مصادر الدخل، وبالعملات الصعبة، وهو قناة السويس، الذي نقل موقع “راديو روسيا” تقريراً مفصلاً عن تدني مداخيلها مؤخراً، حيث “ بلغت إيرادات قناة السويس خلال شهر يوليو الماضي 433.1 مليون دولار مسجلة انخفاضاً مقداره 16 مليون دولار مقارنة بإيرادات نفس الشهر من العام الماضي والتي بلغت 449.2 مليون دولار”. وينقل الموقع عن رئيس هيئة القناة أحمد علي فاضل “أن 1465 سفينة عبرت القناة في الاتجاهين، مقابل 1476 في شهر يوليو 2011 - بانخفاض بنسبة 0.7%. وبلغت حمولات السفن 78 مليوناً و344 ألف طن مقابل 78 مليوناً و830 ألف طن بانخفاض بنسبة 0.6 % “. تجدر الإشارة هنا إلى أن “ إيرادات، قناة السويس بلغت خلال السنة المالية الماضية، نحو 5 مليارات و225 مليون دولار”.
خامس تلك الخصوم الذي لا ينبغي التقليل من خطورته، هو إسرائيل، التي تتطابق مصلحتها المباشرة، مع وجود نظام ضعيف يحكم مصر، بغض النظر عن الجهة السياسية التي تقف وراءه، ومن ثم فمن غير المستبعد، أن تلعب الأصابع الإسرائيلية في الجبهة المصرية، متى ما وجدت فيها خاصرة رخوة يمكن أن تنفذ منها. لن يحتاج الأمر، إلى تحرك إسرائيلي عسكري، أو حتى إعلامي علني، بل ربما تلجأ تل أبيب إلى خطط أخرى من صنعها، لكن تقوم بتنفيذها مجموعات محلية قادرة على إرباك النظام وشل حركته، والزج به في معارك جانبية تلهيه عن حتى مجرد التفكير، دع عنك التخطيط لجبهة سيناء التي لم تعد تخلو هي الأخرى من مشكلات اضطر مرسي السفر شخصياً لمعاينتها قبل الإقدام على أية خطوة بشأنها.
لقد فتح مرسي علبة ديدان على نفسه، أطلقت سحباً قاتمة آخذة في التلبد في سماء مصر، وتنذر بصراعات داخلية يصعب التكهن بالنهايات التي ستؤول إليها.