تثير تطورات الأوضاع في سوريا المزيد من الجدل، ليس على صعيد التداعيات التي ستولدها، أوالإفرازات التي ستتمخض عنها، أو النهايات التي ستؤول إليها فحسب، وإنما حتى على مستوى التصنيفات التي ستلحق بها كإحدى الظواهر التي تمخض عنها ما أصبح يعرف في القاموس السياسي بـ “الربيع العربي”، وأيضاً سينعكس كل ذلك حتى الصفات التي ستطلق عليها كي تدرج في مداخل ذلك القاموس ومفرداته.
فالبعض اختار أن يضعها في خانة الثورات، معتبراً ما تقوم به الأطراف المناوئة لنظام بشار الأسد بمثابة ثورة حقيقية، تسعى للإطاحة بذلك النظام، وتشييد آخر مكانه يختلف عنه في الجوهر. وهناك من حصرها في نطاق التمردات المذهبية المدفوعة بعض العناصر الطائفية. لكن هناك من اعتبرها، بغض النظر عن الشرارة التي أشعلت نيران الحالة، مجرد صراع على السلطة بين فئتين متناحرتين، داخل تلك السلطة، بعد أن وصل تعارض مصالحهما المشتركة إلى مفترق طريق، لم يعد يسمح لهما بالتعايش السلمي، ومن ثم انفجر الصراع بينهما على هذا النحو الصدامي الذي نشهده اليوم، وتطور، ثم اتسع نطاقه كي ينتهي إلى ما هو عليه الآن. من هنا ربما تكون صفة “الحالة”، تعبيراً يشمل مثل تلك التصنيفات وأخرى غيرها، وردت في ذلك القاموس.
ما هو أشد وضوحاً من كل ذلك، مسألتان تختص بهما تلك “الحالة “ السورية، وتجعلها مختلفة في الكثير من ملامحها، ومن ثم إفرازاتها المستقبلية، عن نظيراتها، من تلك التي عرفتها ساحات عربية أخرى مثل مصر وسوريا وليبيا، وهذا الأمر هو، ربما، الذي يجعل تلك الإفرازات أشد عمقاً، وأكثر تأثيراً على مستقبل الأوضاع ، ليس في سوريا فحسب، وإنما في منطقة الشرق برمتها أيضاً، بما في ذلك أوضاع بعض الدول الأجنبية ذات المصالح المتشابكة في منطقة الشرق الأوسط مثل روسيا والصين والولايات المتحدة.
فعلى صعيد الزمان، تعتبر الحالة السورية الأطول عربياً، عندما يقاس زمنها، بقدرتها على الاحتفاظ بزخمها واشتداد معاركها، وعدم توقفها على نحو متوازٍ. وعلى صعيد المكان، كانت هي الأكثر شمولية من حيث التغطية الجغرافية للدولة السورية، إذ لم تعد الحالة السورية، قبل أن تحسم الأمور فيها بشكل واضح، قادرة على أن تحصر نفسها، في ميدان معين، أو مدينة بحد ذاتها، فوجدناه تنتشر، كالنار في الهشيم، من منطقة إلى أخرى في المدينة الواحدة، ومن أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، كي تمس معظم مداخل الحدود السورية ذات الأهمية الاستراتيجية، على المستوى العسكري، والإعلامي وعلى المستوى السياسي. وكذلك الأمر، عندما نشخص المعارك، التي تراوحت في أشكالها وطبيعة مواجهاتها بين الحروب “الغوارية” غير المؤطرة تلك المعارك المتناثرة والمتفاوتة في حجمها، وتلك التقليدية التي يشتبك فيها جيشان يسيران حركة قواتهما وفقاً لقوانين الحروب بين دول متناحرة تتاخم حدود بعضها البعض. ما يميز الحالة السورية، هو شموليتها لكل تلك الظواهر، التي ربما شهدت دول “الربيع العربي” البعض منها، لكن ليس على النحو الشمولي المتكامل والمتواصل، الذي نتحدث عنه.
لكن ما هو أهم من كل ذلك، وبغض النظر عن التوصيفات، هناك إفرازات “الحالة السورية”، التي تكاد تكون مشتركة ومتشابهة إلى حد بعيد، بغض النظر عن المآلات التي ستقود إليها تلك “الحالة “، وبعيداً عن النهايات التي ستصل لها معاركها في المستقبل المنظور. بمعنى أن تلك الإفرازات ستكشف عن نفسها، وتفرض قوانينها المشتركة، سواء بقي نظام بشار الأسد أو تهاوى تحت ضربات القوى المناوئة له، أو حتى جراء تآكله من الداخل. فالمحصلة النهائية لكل ذلك تكاد تكون واحدة، في حال استمرار إمساك بشار بمقاليد الأمور، أم أجبر على مغادرة البلاد، أو حتى اختار الانتحار اليائس، على يد الغير، على الطريقة القذافية الليبية.
فعلى المستوى الدولي من المتوقع أن يستمر التنافس، ومحاولات الضرب من تحت الحزام، بين المعسكرين اللذين شكلتهما تلك الحالة: الصيني الروسي في طرف، والولايات المتحدة وخلفها دول الناتو في الطرف الآخر. سنشهد ذلك في الحالتين: سقوط النظام أم استمرار قدرته على الصمود. ففي الحالة الأولى سيجد المحور الأول نفسه مضطراً لرفض الهزيمة في الساحة السورية، ومن ثم الانتقام، والعكس صحيح بالنسبة للمعسكر الثاني، في حال هزيمة مشروعه الشرق أوسطي، المرتكز أساساً على تدجين النظام السوري، إن لم يكن الإطاحة به. الضربات المتبادلة بين المعسكرين، أو المقايضة بالاتفاق على تقسيم الغنائم، التي يمكن أن تتم بينهما، لن تكون محصورة في سوريا وحدها فحسب، بل ربما تكون في مناطق أخرى من العالم.
ومن النطاق الدولي الواسع، ننتقل إلى الإقليمي الأضيق، حيث من المتوقع بروز معسكرين متواجهين أيضاً، تفرزهما الحالة السورية على أساس وطني، لكنه مشوب بنزعات مذهبية، فهناك احتمال قوي أن نشهد صراعاً مموهاً بين تركيا وإيران الباحثتين كل على حدة، عن موطئ قدم في سوريا يعزز من حضورهما المباشر الذي يؤهلهما لانتزاع اعتراف دولي عند إعادة رسم أية خارطة يجري تحديد معالمها لمنطقة الشرق الأوسط ، في ضوء نتائج تلك الحالة. ومن بين ثنايا هذا الصراع، لا بد أن تكون البصمة الإسرائيلية واضحة المعالم، ومعترفاً بها هي الأخرى أيضاً، إذ ليس هناك أي شك في أن تل أبيب، تعد نفسها اليوم، كي تكون حاضرة في أي من السيناريوهين المتوقعين لنظام بشار الأسد، اللذين أشرنا إليهما أعلاه. ولا بد من الوقوف هنا أيضاً، عند ردود الفعل المتوقعة من قوى عرقية وطنية بالمعني الجغرافي للكلمة، لكن لديها امتدادات إقليمية شرق أوسطية، ولها تواجدات على الساحة السورية، مثل الأكراد، الذي من الطبيعي أن تتضافر جهودهم ككتل عرقية متواجدة في كل من، بالإضافة إلى سوريا ذاتها، العراق وإيران وتركيا، بل وحتى لبنان، والتي ستعمل على الاستفادة من تلك الحالة في أي اتجاه تأخذه تطوراتها، وبالقدر الذي تستطيعه.
ومن الكتلة الشرق أوسطية نصل إلى دائرة أخرى أكثر ضيقاً هي العربية، والتي حتى وإن أجمعت دولها، ومن خلال جامعة الدول العربية على موقف موحد من النظام السوري، لكنها ستجد نفسها منقسمة على الصعيد الشعبي، ين مؤيد لـ “بشار” ومعاد له، وبالتالي فسوف تفرز الحالة السورية انقساماً عربياً، لا نستبعد أن تكون منطلقاته طائفية أكثر منها سياسية، وتزداد خطورة هذه الإفرازات عندما نصل إلى الدائرة الأكثر ضيقاً من كل سابقاتها، وهي الدائرة السورية، التي أدت المعارك التي عرفتها أراضيها، والانتقامات والانتقامات المضادة التي مارستها قيادات المعسكرين، وكان ضحيتها قرى بكاملها، إلى إحداث شرخ عمودي في المجتمع السوري، لا تقف تخومه عند الحدود الطائفية، كما يحلو للبعض أن يحلم بها، كما ستطول فترة تنافره بغض النظر عمن سيكون في السلطة في المرحلة المقبلة. وسيترافق ذلك مع إفرازات أخرى ذات صبغة اجتماعية ومناطقية بسوريا، لكنها لن تكون الأكثر حضوراً في خارطة الحالة السورية التي نتحدث عنها، وإن تكون هناك ضرورة أخذها بعين الاعتبار عند تحديد عوامل تلك الحالة، والعناصر المؤثرة في توجيه مساراتها