كأي ظاهرة سياسية/ اجتماعية بحجم ما أصبح يعرف باسم “الربيع العربي”، من الطبيعي أن تكشف لنا وقائع ذلك “الربيع” عن كثير من الحقائق التي أدت إليه وتلك التي رافقته، وفوق ذلك تلك التي تمخضت عنه. ويمكن إيجاز أهم تلك الحقائق في الوقائع التالية:
أول تلك الحقائق؛ هو حاجة المنطقة العربية إلى الاستجابة إلى التغيير الكوني الذي عصف بالعالم خلال السنوات العشر الماضية، الذي فرضه موضوعياً التطور الذي أحدثته ثورة المعلومات والاتصالات، والذي لم يكن في وسع المنطقة العربية أن تتحاشاه، خصوصاً أنها في منطقة استراتيجية من حيث الموقع وذات أهمية خاصة على صعيد الاقتصاد. فموقعها الجغرافي يقع في قلب طريق الملاحة العالمية والاتصالات الدولية اللتين تربطان بين عواصم العالم ومناطقه الحيوية، وأرضها تختزن النفط الخام الذي لا تستغني عنه أي من عواصم العالم تلك. هذا يجعل قدر البلاد العربية أن تكون في صلب أية عملية تغيير يمكن أن يعرفها العالم، خصوصاً تلك التي أحدثتها ثورة المعلومات والاتصالات، سواء شاءت ذلك وقبلت بالتفاعل الإيجابي مع ذلك التغيير، أم رفضته وحاولت الوقوف في وجهه.
ثاني تلك الحقائق؛ هو عمق تأثير وسعة تدخل العنصر الإقليمي الخارجي وكذلك الدولي في شؤون المنطقة العربية الداخلية، أكثر حضوراً في هذه الرقعة الجغرافية من سواها من الكتل السياسية الأخرى في العالم. لمسنا ذلك في ليبيا عندما ألقت دول حلف “الناتو” بثقلها العسكري المادي والسياسي المعنوي لصالح الطرف المناوئ للقذافي، ونجحت في حسم الصراع لصالح الطرف الأول، ونشهده اليوم في الساحة السورية عندما تزج إيران بثقلها السياسي والمالي وربما العسكري من أجل تعزيز نظام بشار الأسد في دمشق، وبالمقابل لا تكف تركيا عن المناكفة طوراً، بشكل غير مباشر، من خلال الدعم اللوجستي الذي تقدمه للقوى المعارضة لنظام بشار، وتارة أخرى بتدخلها العسكري بخرق المجال الجوي السوري، الأمر الذي يمكن أن يقود إلى صدام عسكري مباشر بين الدولتين؛ سوريا وتركيا، يمكن أن يقود إلى تغيير مسار، ومن ثم نهاية الصراع الداخلي المتأجج اليوم. هناك إذاً تفرد عربي في مثل هذا التداخل العميق والتأثير المتبادل الواسع بين ما هو محلي من جهة وما هو إقليمي ودولي من جهة أخرى في أحداث المنطقة العربية، وكان الأمر بحاجة إلى حدث بحجم “الربيع العربي” كي يظهر مجسماً بالوضوح الذي شهدناه خلال أحداث ذلك “الربيع”.
ثالث تلك الحقائق؛ هو عقم النظام السياسي العربي القائم وعدم حيازته على العناصر التي تتطلبها مقومات التفاعل الإيجابي مع تطورات العصر الراهن. والمقصود بالنظام العربي هنا، هما جناحاه اللذان يحتاجهما إن هو شاء أن يحلق في سماء التغييرات المطلوبة التي نتحدث عنها، وهي السلطات الحاكمة والمعارضات التي تدعي أنها تعمل من أجل التغيير. هذا العقم تؤكده النتائج التي آلت إليها حركات “الربيع العربي” الذي نعالج حقائقه. فما نشاهده اليوم من وقائع على مسرح المشهد العربي يعكس عمق ذلك العجز الذي نتحدث له. فتلك الفئات التي نجحت في إزاحة السلطة ووصلت إلى الحكم، كما هو الحال في تونس ومصر وليبيا، لم تستطع أن تستبدل الأدوات والقيم، بل وفي أحيان كثيرة الطواقم البشرية التي كانت مستخدمة في الأنظمة المطاح بها، فوجدناها تستعين بالكثير منها بعد أن تجري عليها بعض التغييرات التجميلية الشكلية التي لا تمس جوهر النظام، أو تغير من محركاته التي تدير آلاته.
باختصار لم تكن مؤهلة لإحداث التغيير التي ادعت أن تقاتل من أجله. أما تلك التي لم تفلح في الإطاحة بأنظمتها كما نادت فهي لاتزال تقف مشلولة، فيما عدا بعض الأنشطة الخاملة سياسياً، والتي تعكس تراجعها بدلاً من تقدمها بغض النظر عما تدعيه.
رابع تلك الحقائق؛ هو ضبابية المستقبل الذي ينتظر هذه المنطقة في المرحلة القريبة القادمة، فهناك أكثر من سيناريو البعض منها يتربص بهذه المنطقة من أجل الانقضاض عليها وإعادة الهيمنة للقوى الخارجية على مقدراتها وفق صيغ جديدة، وآخرون يحاولون إعادة رسم خارطتها بما يخدم مصالح شعوب البلاد العربية والقاطنين فوق أراضيها. هذه الضبابية تثير كثيراً من البلبلة وتحول دون تقدم القوى المحلية المخلصة الطامحة للتغيير على الطريق الصحيحة ونحو الأهداف السليمة، وتدفع بها بشكل موضوعي نحو الارتماء في أحضان القوى الخارجية؛ إقليمية كانت تلك القوى أم عالمية. هذا بدوره يخلق صراعاً مموهاً يبدو من الخارج أنه صراع داخلي محلي، لكنه في جوهره صراع بين القوى المحلية وأخرى خارجية. ولعل في أحداث اليمن الكثير من المؤشرات التي تثبت مثل الوصف الذي نصنف به تلك الصراعات.
خامس تلك الحقائق؛ تفجر الصراع الاجتماعي بين الأجيال العربية، فقد كشفت أحداث ذلك “الربيع” في الكثير من جوانبها نوعاً من الصراع المتنامي الذي ينذر بالانفجار في المستقبل أيضاً بين أجيال المجتمع العربي، وهو صراع لم يعهده النظام السياسي العربي من قبل.
مرة أخرى المقصود هنا ذلك الصراع الداخلي بين الأطراف المتصارعة. لقد أكدت أحداث “الربيع العربي” أن هذا النمط من الصراعات موجود داخل مؤسسات القوى الحاكمة على حدة، وعلى نفس المنوال يعبر عن نفسه في صفوف قوى المعارضة بشكل مستقل. الملفت للنظر هنا أن كليهما، سلطات وقوى معارضة، تجمعان على إنكاره وترفضان الاعتراف به في صفوف أي منهما. ما ينبغي أن نلفت له هنا أن هذا الصراع، بخلاف ما يتوهم البعض من الضالعين في شؤون العمل السياسي العربي، قد يكون أشد حدة من الصراعات السياسية، وقد ينفجر في المستقبل في أشكال أكثر عنفاً مما شاهدناه في أحداث “الربيع العربي”.
سادس تلك الحقائق؛ أن الإعلام لم يعد قناة تعكس الحدث، بل تطورت كي تصبح إحدى أدوات صناعته، وشهد العالم كيف يتداخل الإعلام كي يجعل من نفسه جزءاً أساسياً من نسيج تلك الأحداث التي عصفت بالمنطقة العربية، ويتنامى كي يصبح عاملاً مهماً في صنعها وعاملاً مؤثراً في تطور حركتها. والمقصود هنا على وجه التحديد شبكات التواصل الاجتماعي، التي باتت سرعة بثها ومكوناتها محتوياتها ودائرة انتشارها منخرطة في صلب صنع الحدث، بعد أن كان الإعلام مجرد ناقل له. هنا تحولت شبكات التواصل الاجتماعي من مجرد قناة إعلامية تتولى إعادة بث مواد الأحداث بعد معالجتها، إلى أحد العناصر اللوجستية التي تمد الحراك السياسي بقدرته على الحركة والنمو، ومن ثم التأثير على حد سواء.
لابد من أن يتمعن في هذه الحقائق ويقرأها بشكل صحيح كل من يريد أن يكون جزءاً أساسياً من صنع قرار الحدث في المنطقة، كي لا يلقى به في أحد هوامشها.