كان طبيعياً أن تنهال بطاقات التهنئة، حاملة في ثناياها تمنيات السعادة والتقدم للشعب الأمريكي، وفي مقدمته رئيسه باراك أوباما، حيث صادف أمس الرابع من يوليو عيد استقلال الولايات المتحدة الأمريكية بعد طردها الاستعمار البريطاني من فوق أراضيها، إثر معارك طاحنة، لم يستطع التاج البريطاني تحمل أكلافها، ولا تداعياتها في قارة أمريكا الشمالية. شكلت الولايات المتحدة منذ ذلك الحين منارة تستهدي بها الشعوب وتستقطب قواها الطليعية المهاجرة، الباحثة عن العلم المستنير على الصعيد الفكري، والثروة المتجددة على الصعيد المالي والاقتصادي. ونجحت الدولة الفتية حينها في أن تشكل نموذجاً يحتذى به على المستوى العالمي، متجاوزة بذلك دولاً عريقة في القارة الأوروبية من أمثال بريطانيا وفرنسا، بل وحتى آسيوية من مستوى الصين واليابان. ووصل الأمر بها، أن تكون مقراً للمنظمة الدولية الحكم على المستوى العالمي، وهي الأمم المتحدة، ومرتكزاً للاقتصاد العالمي، عندما توصلت الدول العظمى حينها في “بريتون أند وودز” في أعقاب الحرب الكونية الثانية إلى مجموعة من القرارات لتنظيم العلاقات الاقتصادية الدولية، وكان من بين أهمها اختيار الدولار العملة التي تسعر بموجبها أسعار العملات في السوق الدولية. لم تأتِ تلك القرارات من فراغ، بقدر ما كانت تعبيراً عن الحيوية والقوة التي كان يتمتع بهما الاقتصاد الأمريكي الذي كان حينها الأكثر صحة من بين اقتصادات الدول التي كانت لتوها قد خرجت من الحرب الكونية الثانية، بما فيها تلك المنتصرة من أمثال بريطاتيا وفرنسا. أكثر من ذلك كانت أشعة شمس الحرية التي تتوج رأس تمثال الفتاة هي من يستقبل القادمين للشواطئ الشرقية للولايات المتحدة بحثاً عن الحرية على صعدها كافة: الاجتماعية، والعلمية، والسياسية. وعلى مستوى الشرق الأوسط، لا يستطيع أحد منا أن ينكر الموقف الأمريكي المتقدم، المتصدي لمختلف أشكال العدوان على الشعوب، عندما وقفت واشنطن ضد العدوان الثلاثي الذي شاركت فيه بريطانيا وفرنسا تتقدمها القوات الإسرئيلية على مصر، عندما أرغمت واشنطن تلك الدول على سحب جيوشها بعد أن تقدمت طلائعها لتصل إلى السويس، مهدية (واشنطن) بذلك القرار الجريء نصراً سياسياً للجمهورية المصرية الفتية. من ينظر، وهو يحتفل مع الولايات المتحدة بعيد استقلالها إلى تلك الصورة الناصعة لتلك القوة الدولية المملوءة بالحيوية والباعثة للأمل، تنتابه خيبة أمل وهو يتأمل الصورة الأمريكية اليوم، على المستويين الداخلي والخارجي، وقد تحولت إلى واحدة لإمبراطورية شمطاء تشوه ما تبقى من معالم حيويتها وجمالها مساحات بشعة لإخفاقات اقتصادية في الداخل، تتكامل في قبحها مع تلك الجرائم المستمرة التي تنفذها واشنطن ضد شعوب العالم في الخارج. فعلى المستوى الداخلي، ومن اقتصاد ديناميكي متنامٍ، يستحوذ بكفاءة، إلى حد بعيد على ما يبلغ من 25 % من حركة الاقتصاد العالمية، وجدناه يتآكل من الداخل، ويتراجع على مستوى الخارج، بعد أن نهشته معدلات التضخم العالية التي وصلت في أوجها في نهاية الثمانينات ومطلع السبعينات من القرن الماضي، وتمتد حتى العقد الأول من القرن 21 ، كي تصل، كمعدل لها، إلى ما يتراوح بين 8 و10%، ترافقت مع حالة ركود حرمت ذلك الاقتصاد من أي نمو، تدنى في بعض سنوات تلك الفترة إلى ما دون 2%. ثم هبت عليه أزمة العقارات في مطلع هذا القرن، كي تدك آخر معاقل المقاومة التي نماها ذلك الاقتصاد على امتداد فترة زادت على ستة عقود، وتكشف، بغض النظر عن محاولات التستر والتمويه، مكامن العيوب البنيوية التي بات ذلك الاقتصاد يعاني منها، والتي حولت بلاده إلى دولة مدانة لاقتصاد ناهض مثل الصين بحوالي تريليونين من الدولارات، ويرغم واشنطن أن تقف مستجدية أمام أسوار جدار الصين العطيمة، متسولة منها أن تعيد النظر في أسعارعملاتها مقارنة بالدولار، دون أن ننسى أنها خلال مسيرة التراجع هذه، اضطرار واشنطن أن تحرم الدولار من مكانته الدولية في منتصف السبعينات، عندما أزيح من موقعه كمقياس لأسعار العملات العالمية. كان ذلك على المستوى الداخلي، أما على المستوى الخارجي، فقد بدأ التدهورالأمريكي يظهر للعيان عندما تمرغت القوات الأمريكية في وحول الحرب الفيتنامية، التي بغض النظر عن التحليلات كافة، التي تقف وراء البعض منها مؤسسات البحث الأمريكية، التي حاولت أن تظهر هزيمة الولايات المتحدة، على أنها صفقة عالمية، اتفقت عليها واشنطن مع الاتحاد السوفيتي حينها، دون أن تبتعد الأصابع الصينية عنها، لكن حقائق التاريخ أثبتت أنها كانت البداية لتدهورالإمبراطورية الأمريكية، دون أن نغفل هنا انهيار معسكر الكتلة السوفياتية، وتأكيد قدرة الشعب الفيتنامي على انتزاع حقوقه، ونيل حريته رغماً عن إرادة الاستعمار الأمريكي، بكل عناصر القوة التي كانت تقف خلفه حينها. ولو استعرضنا مسيرة السياسة الأمريكية خلال العقود الثلاثة الماضية، لوجدنا مظاهر التدهور والقبح واضحة على صورة ذلك الأمريكي، الذي تكرست صورته البشعة في أذهان شعوب مثل إيران وأفغانستان والعراق، بل وحتى دولاً صغيرة أخرى مثل البحرين. نرصد ذلك بالغارة الجوية الفاشلة التي شنتها القوات الأمريكية على طهران من أجل تحرير رهائن سفارتها في واشنطن، والتي انتهت بهزيمة منكرة، أرجعتها الدوائر الأمريكية إلى عوامل جوية محضة، واعتبرتها المرجعيات الإيرانية أنها معجزة إلهية. دون الدخول في التفاصيل، الحقيقة المرة أنها كانت التعبير الملموس لعجز المؤسسة العسكرية الأمريكية، بفعل التدهور الذي بات ينهش جسد دوائرها السياسية الحاكمة، دع عنك العسكرية، عن تنفيذ عملية ناجحة صغيرة في أهدافها العسكرية، محدودة في نطاقها الجغرافي، قصيرة في إطارها الزمني. وتبدأ مسيرة التراجع الحضاري الأمريكي، الذي عكسه الارتخاء الذي شل نسبة عالية من قدرتها العسكرية، ناهيك عن فشل مشروعاتها الخارجية، فرأيناها تتكبد الخسائر الواحدة تلو الأخرى، في أفغانستان، وبعدها في العراق، لتبلغ تلك الخسائر ذروتها في عملية البرجين اللذين استهدفتهما الطائرتان المدنيتان في مطلع سبتمبر 2001، والتي بغض النظر عن الجدال الذي يدور اليوم عن القوة التي تقف وراء ذلك التفجير، حيث برزت بعض التحليلات التي تشير بأصابع الاتهام إلى تصفية خلافات في صفوف الدوائر الأمريكية الحاكمة حينها، إلا أنها تبقى في نهاية الأمر تعبيراً واضحا ًعن التدهور الأمريكي الذي نتحدث عنه، سواء قامت بها منظمة “القاعدة”، ففي ذلك الدليل الساطع على تدهور كفاءة الأمن القومي الأمريكي، أو أنها خلافات داخلية، عجزت الإدارة الأمريكية، كتعبير عن تداعيها على لجمها وحصرها في نطاق ضيق لا يصل إلى العلن، وبالصورة التي شهدتها أعين العالم قاطبة. من هنا، ربما كان من الأجدى على واشنطن، بدلاً من الاستمرار في الاحتفال الزائف بعيد استقلال إمبراطورية بدأت عوامل الضعف تدب في مفاصلها، ومظاهرالكهولة المتهالكة تبدو على هيكلها، دون أية فائدة ترجى من طبقات المساحيق التجميلية المؤقتة التي تطلي بها هي أو حلفاؤها نفسها، إن تمعن تلك الأمبراطورية، النظر إلى نفسها في المرآة، لرسم صورة جميلة لها، بعد أن تعيد هيكلة اقتصادها على المستوى الداخلي، وتراجع صلب خططها وعلاقاتها الدولية على المستوى الخارجي، كي لا تكرس احتفالات الاستقلال الشكلية عناصر الأفول البنيوية التي نتحدث عنها.