الخيانة بشكل عام صفة مذمومة ومكروهة في كل الثقافات والديانات السماوية والأرضية على حد سواء، وهي سمة ممقوتة في كل المجتمعات على مر العصور. وخيانة الأوطان من أبشع أنواع الخيانات، لذا فإن كل دساتير العالم وقوانينها تجرم هذه الخيانة وتغلظ عقوبتها لتصل إلى حد عقوبة الإعدام لمرتكبها.
في هذا السياق يذهب جمال الدين الأفغاني إلى القول: “خائن الوطن، ولسنا نعني به من يبيع بلاده بثمن بخس، بل خائن الوطن من يكون سبباً في خطوة يخطوها العدو في أرض الوطن، بل من يدع قدمّي العدو تستقر على تراب الوطن وهو قادر على زلزلتها فهو خائن، وفي أي لباس ظهر، وعلى أي وجه انقلب، من هنا نجد أن الخائن محتقر حتى في عيون من وظفوه”.
في هذا الاتجاه يروى أن نابليون بونابرت في حربه مع النمسا استفاد من معلومات قدمها له ضابط نمساوي، ولما جاء الضابط يطلب مكافأته، رمى له بصرة من الذهب على الأرض، فقال النمساوي ولكني أريد أن أحظى بمصافحة الإمبراطور، فأجابه نابليون: “هذا الذهب لأمثالك، أما يدي فلا تصافح رجلاً يخون بلاده”.
من خلال هذه المقدمة التي بدأت بها مقال اليوم، وهي في الحقيقة محاولة لتوضيح مفهوم خيانة الوطن كما وردت في بعض الأدبيات العربية والدولية، وذلك لوضع “جماعة جنيف في الميزان” انطلاقاً من مفهوم الخيانة باعتبارها المحك للفصل بين بعض الكتاب الذين وصفوا الوفد الأهلي المشارك في جنيف “بالخونة” والآخرين من بعض كتاب إحدى الصحف المحلية الذين ثارت ثائرتهم، وانتابتهم موجة من الغضب كرد فعل على ذلك الوصف، وبالتالي وضع المساجلات بين الطرفين في إطارها الصحيح.
فالقضية باختصار شديد تتلخص في أن بعض كتاب الرأي في الصحف المحلية رأوا في الأعمال التي قام بها أعضاء الوفد الأهلي المشارك في الجلسة التي عقدت في التاسع عشر من الشهر الحالي في مقر مجلس حقوق الإنسان بجنيف المخصصة لمناقشة الملف الحقوقي في البحرين أنها تندرج تحت مفهوم الخيانة، وقد بنوا هذا التصور على أساس أن هذا الوفد كان يسعى بكل قوة من أجل وضع البحرين على قائمة الدول التي تنتهك حقوق الإنسان، ومن وجهة نظرهم فإن ذلك لا يستقيم مع الوطنية أو الدفاع عن حقوق الإنسان، ومهما برر هؤلاء من مسوغات دعتهم لتبني هذه المواقف المعادية لوطنهم فإن تلك التصرفات هي التي دفعتهم إلى وضع هؤلاء في قائمة “الخيانة الوطنية”.
في تقديري أن الكتاب لم يتجنوا على هؤلاء؛ فغيرتهم على بلادهم وحماسهم الشديد في الدفاع عن وطنهم دفعهم إلى اتخاذ موقف من هؤلاء، خصوصاً أنهم لم يجدوا تفسيراً أو مبرراً لما قام به هؤلاء من أعمال سوى أنها تندرج تحت بند “الخيانة”، فاختلافهم مع الحكومة لا يبرر لهم إطلاقاً الاتصال بالجمعيات الحقوقية التي لا ترى المشهد الحقوقي في البحرين بموضوعية ولا تنظر إليه إلا من زاوية ضيقة تتناغم مع أجندات بعض الجماعات السياسية التي تحاول الانقلاب على الدستور، ومثل هذه الأعمال تتفق مع ما ذهب إليه الأفغاني في تعريفه “لخائن الوطن”، كما أشرنا إليه.
فالاستقواء بالخارج يمهد الطريق للأجنبي ليكون له موطئ قدم في بلادنا؛ فهل من الحكمة أن يساعده البعض من المواطنين على تحقيق هذا الهدف، فإذا كان مثل هذا العمل تعتبرونه بطولة فهذا شأنكم، ولكن في المقابل هناك فئات ليست قليلة من المواطنين، ومنهم كتاب الرأي في الصحف المحلية، يعدونه خيانة بحق الوطن.
من هنا فنحن لا نلوم هؤلاء في توصيف أعمالهم بأنها إساءة للوطن، ومن يسئ للوطن فعليه أن يتحمل تبعات هذه الإساءة؛ لأن كل قوانين الدنيا تجرم مثل هذه الأفعال، لهذا فإن ما قاله بعض الكتّاب بحق الوفد الأهلي في جنيف لا يعد تحريضاً كما يزعم بعضكم؛ خصوصاً أولئك الذين انتابتهم هستيريا من الغضب وراحوا يصبون جام غضبهم على أولئك الكتاب، ووصل الحال ببعض من يسمي نفسه بالناشط الحقوقي دعوة أعضاء الوفد الأهلي لرفع شكاوى في النيابة العامة ضد هؤلاء الكتاب.
هنا نسأل أين حرية التعبير التي طالما تتشدقون بها وتطالبون الدولة بزيادة مساحتها؟ فهل هي حلال عليكم حرام على غيركم.
نحن نعلم أن هجومكم غير المبرر على الكتّاب الذين يخالفونكم في الرأي السياسي تهدفون من ورائه تحقيق غايات سياسية باتت مكشوفة للبحرينيين وللمراقبين المحايدين الذين يتابعون المشهد السياسي والحقوقي في البحرين. وفي هذا السياق فإننا نفهم لماذا ثارت حفيظة نفوسكم، وهببتم -وبصورة ممنهجةـ للدفاع عن هذا الوفد ووجهتم سهام نقدكم للصحف والكتاب التي أدرجت تلك الأعمال التي قام بها هؤلاء في جنيف تحت بند الإساءة للوطن وخيانته.
في تقديري وببساطة شديدة لأنكم في الواقع تمترسون معهم في خندق واحد، لذلك فإن دفاعكم عن الذين حضروا جلسة جنيف الأخيرة كان طبيعياً ومتوقعاً، لأن غاياتكم واحده.