إن من أهمّ أدوات التنمية التي تنهض بها سياسة التحديث الاجتماعي في المجتمع هي المدرسة، لأنّها تنهض بأهمّ العمليات التنموية والتغييريّة على الإطلاق. لذلك فإنّ بين ثلاثي السياسة والتنمية والمدرسة ارتباطات أكيدة ووشيجة. بل إنّ الحديث عن المدرسة هو بالضرورة حديث عن السياسة والتنمية ومن ثمّة عن القيم الديمقراطية، إذ إنّ تنمية قدرات الأفراد وفكرة المساواة وتكافؤ الفرص وحقوق الإنسان والتسامح والحداثة والقبول بالرأي المخالف هي في صلب الأهداف التنموية والتحديثية للمجتمع. والإنسان لا يصبح إنساناً ولا يرقى في تحقيق إنسانيته إلا بالتربية والمدرسة. وكم تصحّ هنا مقولة فيليب ميريو أحد علماء التربية المحدثين عندما قال: “لا يمكن لي أن أتعلّم إلاّ إذا مدّني من خارج ذاتي كائن أو مؤسسة أو أداة ما بالعناصر التي سأبقى من دونها أعشى وأصمّاً وأبكماً.. لذلك وجب على المعلّم (والمدرسة) أن يضطلع بوظيفته.. فينقل إلي معارف العصر وكفاءاته.. ولا يمكن لهذا النقل أن يدرج ضمن الامتداد المباشر لما أنا عليه.. إنّما يفترض قطيعة لا أقدر.. على أن أنجزها بمفردي بالسرعة الكافية”. إنّ تعريفاً كهذا يكشف عن الأبعاد العميقة التي تنهض بها المدرسة والدور المهمّ الذي يناط بعهدة المعلم. فالمدرسة تنهض أولاً وأساساً بوظيفة التربية، ونعني بذلك تمرير المعارف والخبرات والقيم التي يختارها المجتمع ويراها الأمثل في تكوين أجياله من الناشئين ونحت معالم شخصيتهم الجماعية. ولعلّ أكبر معركة حضارية يمكن أن يخوضها مجتمع ما لأجل التنمية الشاملة وتحقيق أهدافه العليا، إنّما تنهض بها مؤسسات التنشئة والتربية بدءاً بالمدرسة. ولذلك عدّ ظهور المدرسة في الأزمنة الاجتماعية الحديثة أهمّ ابتكار جديد، فمع ظهورها وقعت ثورة حقيقية في أنماط التنشئة، لأنها بالأهداف التي تتصل بها والوسائل الجديدة التي تنقل بها المعرفة، وبالمضامين الثريّة المدعوّة إلى تقديمها إلى المتعلمين، جعلتها ترقى إلى أهمّ المؤسّسات التي توليها المجتمعات الحديثة مكانة خاصّة تستثمر فيها طاقاتها المادية لتربية الأجيال القادرة على تحمّل مسؤوليات المستقبل. فالمدرسة بهذه المعاني إنّما تنهض بأخطر المهمات في التاريخ. فبينما كانت المعارف في المجتمعات التقليدية تنهض على الحفظ والتكرار لمعارف وخبرات الأجداد، أضحت التربية الجديدة اليوم تقوم أكثر فأكثر على الإبداع والابتكار وتكوين العقول المفكّرة. بهذا المعنى تتخذ المدرسة مكانة متميّزة، فبواسطتها تزوّد المجتمعات الحديثة أفرادها من الناشئين بالكفايات والمكتسبات ليكونوا في مستوى اللحظة التاريخية التي يحيونها والأفق الذي يطمحون إليه، والعصر الذي يعيشون فيه وفي مستوى التحديات التي يواجهونها. ولا تقف وظيفة المدرسة عند هذا الدور فقط، لأنها في الأصل مؤسّسة الوفاق والحفاظ على الوحدة الاجتماعية للمجتمع، وإدماج الأفراد في الحياة الاجتماعية وإعدادهم نوعياً وكمياً ليحتلّوا فيه لاحقاً مواقع منتجة وفاعلة. لهذا يكون من شأن المدرسة أن توحّد القيم الوطنية العامّة وتربي الأجيال الصاعدة على القيم الفضلى، وتكوّن الأفراد التكوين الذي يسمح لهم بالانخراط في الحياة المهنية والإنتاجية والمدنية بشكل عام، هذا بالإضافة إلى دور المدرسة الحيوي في الحد من أشكال ولاء الأفراد إلى الكيانات والمرجعيات التقليدية (القبيلة، الطائفة، المنطقة، الجنس، العرق..) وترسّخ في المقابل ولاء أمتن إلى الدّولة الوطنيّة، وقد اتّخذ هذا التغيّر دلالة عميقة ضمن مسارات التحديث الاجتماعي والثقافي لأنه ساهم في بلورة مفهومين جديدين يتخذان في المنظومة الجديدة قيمة كبيرة في شخصية المواطن وهما بالأساس مفهوما المواطنة، والحسّ المدني، ولا شك أن نجاح المدرسة في أداء دورها رهن بنجاحها في بناء المواطنة والحسن المدني خارج نطاق تأثير الانتماءات الجزئية. إنها مهمة صعبة ولكنها ضرورية وحيوية ولا يمكن أن تنجح المدرسة في رسالتها بدونها.