قالت اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية في مصر كلمتها النهائية الفصل في انتخابات الرئاسة المصرية بإعلانها «فوز مرشح الإخوان المسلمين محمد مرسي في جولة الإعادة بمنصب الرئاسة». ماراثون ديمقراطي طويل قطعه الشعب المصري تبدو أول علاماته عند اندلاع ثورة 25 يناير 2011 التي أزاحت نظام حسني مبارك، وتمتد بعيداً كي تصل إلى العام 1952، عند الإطاحة بالملك فاروق، واستلام القوات المسلحة المصرية السلطة إثر انقلاب عسكري، له الكثير من الإيجابيات، وعليه ما لا ينبغي التغاضي عنه من السلبيات، وفي المقدمة منها موقفه من المسألة الديمقراطية. وقبل تناول الملفات الساخنة التي تنتظر محمد مرسي وهو يخطو خطواته الأولى نحو القصر الرئاسي، كي يتولى سدة رئاسة الجمهورية، لابد من التوقف سريعاً، عند مجموعة من الحقائق ذات الأهمية التاريخية التي لابد من اللفت لها. أول تلك الحقائق، هي الانتصار الكبير المشهود الذي حققته مصر، قضاء ومؤسسات حاكمة، بما فيها القوات المسلحة، وشعباً، فجميعها كرست سلوكاً حضارياً منذ بداية المعركة الانتخابية، وآخرها تقبل خبر النتائج. تحاشى الطرفان المتنافسان أي شكل من أشكال التصرف اللاحضاري، فلم يبالغ محمد مرسي في الاحتفال بانتصاراته، ولم يتشف أحمد شفيق من أحد بهزيمته. فإذا تجاوزنا بعض التصرفات غير المقبولة، والتي كانت استثنائية، ومعظمها جرى قبل إعلان النتيجة، يمكننا القول إن المحصلة النهائية لردود الفعل، كانت حضارية في شكلها وجوهرها. ثاني تلك الحقائق، هي النضج الذي أبداه الخصمان المتنافسان، والذي يمكن أن يشكل سابقة عربية يحتذي بها الآخرون في دول عربية أخرى، باستخدام الطرفين كل الأسلحة المسموح بها في المعارك الانتخابية، وكان آخرها اللجوء إلى اللجنة العليا للانتخابات للطعن في النتائج قبل القبول بها، لكي ينتهي كل ذلك بقبول أحمد شفيق بروح رياضية عالية نتيجة خسارته، بقرار علني اعترف فيه «بالهزيمة، وهنأ مرسي واصفاً مهمته بأنها صعبة». مقابل ذلك، كان تمسك مرسي بفوزه، لكنه بعد أن حقق ذلك، يعود كي يؤكد أنه بعد إعلان النتيجة تحول من ممثل لحزب معين إلى «رئيس لكل المصريين أينما وجدوا، في الداخل والخارج، في الشرق والغرب، في الشمال وفي الجنوب، في كل المحافظات. أنتم أهلي جميعاً، مسلمون ومسيحيون، رجال ونساء، كبار وصغار. أنتم أهلي جميعاً، وسأكون على مسافة واحدة منكم جميعاً، لا تمييز إلا بمدى احترام القانون». لكن الانتهاء من مرحلة الانتخابات، بغض النظر عن نتائجها، لا يعني الوصول إلى نهاية السباق، بل يؤكد دخول الفائز فيه سباقاً آخر، مقاييسه مختلفة، وربما تكون أكثر قسوة، ومتطلبات الوصول إلى نهاياته، دع عنك الفوز به، أشد صعوبة، وأكثر تعقيداً. ومن يقرأ خطاب الفوز الذي ألقاه مرسي يجد فيه العديد من الإشارات الواضحة على طريق الرئاسة، والتي تشكل قنابل موقوته يمكن أن تنفجر في أية لحظة، متحدية قدرة مصر على الاستمرار في مواصلة المسيرة الديمقراطية، دون التراجع عن احتياجات صيانتها، ومنذرة بإمكانية نسف برامج إعادة «تأهيل» مصر، كي تسترد عافيتها وتأخذ موقعها الذي تستحقه، موضوعياً، في خارطة العلاقات الدولية والإقليمية، بعد إعادة ترتيب بيتها الداخلي. أول تلك القنابل الموقوتة، التي لا ينزع فتيلها التعامل اللفظي معها هي العلاقة مع القوات المسلحة، وإعادتها، بعد تحجيمها، من حلبات السياسة إلى ثكنات الجيش. فهناك ست عقود من الزمان حكمت فيه المؤسسة العسكرية مصر، وإزاحة ممثلها وهو حسني مبارك، لا يعني اجتثاث جذورها. هنا لا ينطبق المثل، بأن قطع الرأس يوفي بغرض التخلص من الأفعى. سيواجه مرسي مؤسسات ذات تركيبات معقدة، تتداخل فيها البيروقراطية العسكرية بمؤسسات أخرى، نجم عنها تكريس مصالح راسخة تعبر عن قوى اجتماعية، داخل المؤسسة العسكرية وخارجها، تشكل، في مجملها كتلة اقتصادية/ اجتماعية/ سياسية مركبة، بحاجة إلى حل سحري، يحسن تفكيك معادلتها، وإعادة هندسة تركيبها، إن هو أراد تحييدها، أو اتقاء شرورها، دون أن يكون ذلك على حساب برنامجه التنموي، الذي وردت في خطاب الفوز إشارات متكررة واضحة لمعالمه الرئيسة. ثاني تلك القنابل، هو العلاقة التي سيقيمها مع مع القوى السياسية الأخرى، بخلاف القوات المسلحة، والبعض منها خاض معركة الرئاسة، وخرج منها في الجولة الأولى. هل سينفرد مرسي، ومن ورائه جماعة الإخوان المسلمين بالسلطة، من خلال استحواذهم على أغلبية برلمانية، سيضاعف وصول ممثلهم إلى الرئاسة من فرص نيلها، أم أنهم سيتنازلون عن ذلك بوعي، كي يتسنى لهم نسج علاقات مختلفة تقود إلى إشراك قوى أخرى في السلطة. هذه القنبلة الموقوتة، تضع مرسي أمام خيارات هي الأخرى صعبة ومعقدة في آن. فهناك استحقاقات سياسية داخلية على مستوى الجماعة، لا بد له من معالجتها بحكمة، سوية مع استحقاقات وطنية خارجية (خارج إطار جماعة الإخوان)، يصعب القفز فوقها، وخاصة من قبل القوى التي دعمت مرسي في الجولة الثانية، وكانت بمثابة بيضة القبان التي غيرت من موازين القوى لصالحه. في الخيار الأول، وإذا ما خضع مرسي للضغوط الحزبية الداخلية، سينتهي الأمر، كما يقول المثل الشعبي المصري، «كأنك يا بوزيد ما غزيت»، أي أن مصر ستعود إلى حكم من لون سياسي واحد، فرداً كان ذلك اللون أم حزب. سيحكم مصر حزب له أغلبية في البرلمان، ورئيس للدولة. وفي الحالة الثانية، وإذا ما استجاب للاستحقاقات الخارجية، فكيف سيتم التوزيع العادل لغنائم المعركة الانتخابية. نزع فتيل هذه القنبلة الموقوتة، وإزاحتها من طريق المسيرة المصرية، بحاجة إلى ما أكثر من مهارة، وأعقد من خبرة، وإن امتلك الأولى، فلابد له من أن يتمتع بالثانية. القنبلة الثالثة، وهي الأشد خطورة، والأوسع نطاقاً، وهي المشكلة الاقتصادية، فبعيداً عن درجة اقتراب مرسي من المؤسسة العسكرية، أو محاولته للابتعاد النسبي عنها، ودون الحاجة للغرق في تفاصيل توزيع حصص الانتصار، داخلياً في صفوف الجماعة، أو خارجياً مع القوى السياسية الداعمة أو المنافسة، هناك الأزمة الاقتصادية الموروثة من عهد مبارك، الذي أنهك فساده الاقتصاد المصري، بعد تمزيق عضلاته الداخلية، ورهن مواردها للديون الخارجية. وزاد من تلك الأزمة الأحداث الأخيرة التي امتدت لما يزيد على العام، تدهورت خلالها السياحة، وهي من أهم مصادر الدخل المصري، وتعطل جرائها، تدفق الاستثمارات الخارجية المباشرة، ولها حصتها التي لا يستهان بها في الدخل الوطني، وتجمدت أثنائها، تحويلات المصريين في الخارج، وكانت أحد الشرايين المهمة التي تمد قلب الاقتصاد المصري بالقدرة على النبض، ومن ثم الإنتاج، وانعكس كل ذلك على أداء البورصة المصرية التي ما تزال تلعق جراح تعثرها. الجميع هنا ينتظر من مرسي، برنامجاً يكاد أن يكون معجزة، قادراً على تلبية الكثير من الاحتياجات المباشرة للمواطن المصري، دون التضحية بالبرامج الكفيلة بإعادة التوازن المطلوب لذلك الاقتصاد، قبل البدء في انطلاقة تنموية تنشله من الأزمات المحيطة به. مرسي أمام طريق وعرة، مملوءة بالقنابل الموقوتة، كما أشرنا، وليس هناك من يتمنى لمصر أن تقع من جديد في مصيدة نصبها الكثيرون ممن يخشون خروج القمقم المصري من فانوسه.