في خطاب اعتبره الكثير من المصادر السياسية تاريخياً بالمعيار الدولي للكلمة، ووصفه البعض بأنه “قنبلة”، ونعته آخرون بأنه “تسونامي”، خاطب الرئيس المصري محمد مرسي، من فوق المنصة الرئاسية لمؤتمر دول عدم الانحياز رؤساء الدول المشاركة في القمة السادسة عشرة للحركة في إيران، ومن خلالهم المجتمع الدولي المتابع لوقائع تلك القمة. وإذا تجاوز المتمعن فيما ورد في الكلمة الموضوعات التقليدية المتوقعة التي جاءت فيها، فليس في وسعه أن يقفز فوق مجموعة أخرى من القضايا المفصلية التي توقف عندها مرسي، وركز عليها، وتعمد إبرازها، وتستحق المعالجة.
أول تلك القضايا جاءت في مقدمة الكلمة هو تمييز مصر عن إيران، وعلى أكثر من صعيد. استهل ذلك، عندما اتبع الصلاة على النبي، بالدعوة للرضى عن صحابته الأربعة واحداً واحداً، وهو ما أثار حفيظة الدولة المضيفة، لكنه بالقدر ذاته، وهو ما أراد مرسي أن يبرزه، ميز مصر عن إيران ضمن منظومة الدول الإسلامية، بشكل سياسي متزن، وغير استفزازي. واتبع ذلك بالحديث المتكررعن سوريا، مؤكداً في أكثر من مكان في خطابه على أن ما يجري في سوريا هو ثورة حقيقية “ضد نظام قمعي فقد شرعيته”، واضعاً من خلال تلك الإشارتين أول شروط مصر في أية علاقة تريدها إيران للتباحث في شؤون المنطقة، معبراً بشكل جلي عن مساحات الاتفاق والاختلاف التي من الطبيعي أن تنظم العلاقات الشرق أوسطية بين العرب وإيران، إن أرادت الأخيرة ذلك. محاولة مرسي في وضع الحدود الفاصلة الواضحة التي تسلط الضوء على مساحات التوافق وهوامش الاختلاف بين مصر، وربما العرب، وطهران، هي التي دفعت، وهو أمر يؤسف له وسائل الإعلام الإيرانية إلى التلاعب في بعض النصوص التي وردت في ذلك الخطاب عند ترجمتها إلى الفارسية، تحاشياً لخروجها عن التوجه السياسي لطهران.
ثاني تلك القضايا تتعلق بأوضاع مصر الذاتية، التي حاول مرسي أن يتحدث عنها عندما أكد على أن “مصر دولة مدنية بكل معنى الكلمة، الآن مصر هى الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة التى يتولى أبناؤها بإرادتهم دفة أمورهم كاملة”، مذكراً في هذا السياق بالدور الذي مارسته مصر خلال عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، قاطعاً الطريق على كل من يحاول أن يلحق مصر بأي من دول المنطقة، ويرغمها على السير في دبرها. واسترسل مرسي في التشديد على مدنية الدولة المصرية بعد ثورة 25 يناير 2011، عندما تحدث عن حقوق المرأة، والتي ربما جاءت الإشارة لها في شيء من العجالة، لكنها تصب في الإطار ذاته، عندما طالب “بمواصلة جهود تمكين المراة ومنع كافة اشكال التمييز ضدها”. في اختصار شديد يمزج مرسي هنا بين دور مصر السياسي وتوجهها الاجتماعي في المستقبل المنظور، كي يزيل الأوهام من أذهان من يراهنون على أن تكون لمصر هوية مغايرة لذلك التوجه.
ثالث تلك القضايا التي جاءت في الخطاب، كانت موجهة نحو إسرائيل، ليس من خلال تكرار الثوابت التي ترفض الاعتراف بها في الحق الفلسطيني، وإنما عندما شدد على ضرورة إخلاء المنطقة من مشروعات التسلح النووي، مشدداً على كل دول المنطقة دون أي استثناء، متمسكاً بحق دولها في الاستخدام السلمي للطاقة النووية، محذراً من أن على “الرغم من هذا الاتفاق إلا أنه لايزال أمامنا تحديات جمة في سبيل تحقيق هذه الأهداف وتحقيق عالمية معاهدة منع الانتشار النووي بحيث تنطبق على الجميع بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط التي انضمت جميع دولها إلى المعاهدة باستثناء إسرائيل”. وفي هذا الموقف انحياز كامل للموقف الإيراني، دون تبعية له، ومواجهة صريحة للسياسة الإسرائيلية في المنطقة. تكتنف هذه النقطة، رسالة مبطنة تنذر تل أبيب، بأن موقف مصر مرسي من قضايا الشرق الأوسط غير متطابق مع ذلك الذي عهدته تل أبيب في العهدين السابقين: مبارك، ومن قبله السادات، مستعيناً في ذلك في كون “القضية الفلسطينية كانت منذ بداية حركة عدم الانحياز على رأس أولوياتها وستظل كذلك إلى أن يتم التوصل إلى حل عادل وشامل لها يضمن الحقوق المشروعة غير القابلة للتصرف”. ثم ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، عندما شدد على ضرورة أن تواصل حركة عدم الإنحياز “الوقوف بجانب هذا الحق “الفلسطيني” وتوفير الدعم السياسي وغيره من أنواع الدعم اللازم لتحقيق الاعتراف بالدولة الفلسطينية داخل الأمم المتحدة كدولة كاملة العضوية بالمنظمة”.
القضية الرابعة التي ينبغي التوقف عندها في ذلك الخطاب متعلقة مباشرة بالولايات المتحدة، فبعد الإشادة بالدور الإيجابي الذي مارسته كوبا في منظومة عدم الانحياز، انتقل مرسي إلى النظام الدولي مطالباً بإعادة هيكله لرفع الظلم عن كاهل دول القارة الأفريقية، التي بات من حقها اكتساب عضوية دائمة في مجلس الأمن الدولي، وكلتا القضيتين لا تحظيان باستحسان واشنطن، بل ربما تستفزانها، خاصة عندما تربطان بنقده الواضح لـ “حق الفيتو” ودعوته الصريحة لتطبيق التعددية في إدارة النظام الدولي، من خلال المؤسسات الدولية التي ينبغي لها التقيد بأصول الحوكمة الصحيحة ومقاييسها، منطلقاً في ذلك من “العنوان الموضوعى الذى تم اختياره لقمتنا هذه هو الحوكمة العالمية المشتركة وعلاقتها بالسلام الدولى، هذا العنوان يعكس بوضوح رؤية يتعين أن تلتف حولها حركتنا بكل قوة، ونحن نرفع شعارنا نحو عالم أكثر عدلاً”، دون أن يغفل أن يربط ذلك ببعديهما الاقتصادي والاجتماعي، عندما شدد على أنه “يتعين أيضاً الاستمرار في تفعيل التنسيق بين حركة “عدم الانحياز” ومجموعة الـ 77 والصين لتحقيق الأهداف المشتركة للدول النامية في مختلف المجالات بما يعزز التعاون بين دول الجنوب، من جانب ومع مواصلة الحوار مع شركائها الدولين”.
ربما من المبكر بعض الشيء، بل وحتى من التسرع في الحكم على مستقبل مصر السياسي من خلال خطاب يتيم ألقاه الرئيس المصري في قاعة مؤتمر دولي، لكن عندما يربط بين ذلك الخطاب، ومجموعة أخرى من الخطابات، لعل أبرزها ذلك الذي ألقاه في جامعة القاهرة، لحظة تسلمه الرئاسة، وبين بهذين الخطابين الإجراءت التي اتخذها على المستوى الداخلي، وفي المقدمة منها عزل مجموعة من قيادات القوات المسلحة، دون أن نستثني الزيارة الخاطفة التي أعقبت خطابه في قمة عدم الانحياز إلى الصين، والنتائج التي أعلن عنها. كل ذلك يشير إلى توجه لدى مرسي إلى استعادة الدور المصري الذي عهدناه في العقدين الخامس والسادس من القرن الماضي، قبل أن تمنى مصر، ومن ورائها العرب بهزيمة حرب يونيو 1967.
لا شك أن هناك مسؤولية تاريخية تقع على عاتق مصر على المستويين الداخلي المحلي والإقليمي العربي، متى ما أنجزتهما، سيكون في وسعها أن تمارس الدور التاريخي الريادي الذي يتطلع لها العرب، أن تقوم به على الصعيد الدولي، وفي القلب منه دور متقدم في حركة مثل حركة “عدم الانحياز”. فهل يعيد مرسي لمصر هذا الدور، وضمن أية شروط، وفي نطاق أية رؤية؟ هذا هو التحدي