استعرضنا في الحلقة الأولى النقاط الثلاث التي تشخص الحالة التي يمر بها «الربيع العربي» ونستكمل في هذه الحلقة الأسباب الأخرى وهي:
4- دور القوى الخارجية في الصراعات العربية الوطنية والإقليمية، فبخلاف الجغرافيا السياسية لأية منطقة أخرى، تتمتع القوى الخارجية بثقل لا يمكن إغفاله عند تناول الأوضاع في العالم العربي، سواء في إطاره العام كإقليم، أو على مستوى كل واحدة من دوله على حده. وخلال أحداث «الربيع العربي»، لم تتردد دول مثل الولايات المتحدة وروسيا، بل وحتى الصين، في المجاهرة بالاصطفاف، كل بحسب مصالحه الذاتية، البعيدة وربما في أحيان كثيرة المتناقضة مع مصالح شعب الدولة التي تتعرض لتلك التدخلات الأجنبية، مع القوى المحلية الضالعة في الصراع. وجدنا ذلك السلوك الدولي عسكرياً واضحاً ومباشراً في ليبيا، ومبطناً، لكنه ظاهر للعيان في مصر، وسياسياً لكنه مؤثر للغاية في سوريا. ذلك التدخل، تشرحه المصالح العظمى التي تملكها تلك الدول في المنطقة العربية، وفي المقدمة منها، ضمان تدفق النفط العربي، بالكميات التي تحتاجها أسواق تلك الدول، وبالأسعار التي لا تنهك موازناتها. من هنا، بوسعنا أن نفهم، حتى وإن كنا لا نقبل، لماذا لا يمكن لتلك الدول أن تقف مكتوفة الأيدي، وتكتفي بموقف حيادي إزاء أية تطورات يمكن أن تعرفها المنطقة العربية، وربما في بعض الأحيان، لا تتردد في التعاون مع قوى محلية من أجل تسوية التربة التي تمهد لمثل تلك التطورات. هنا لابد من التحذير من احتمال أن تقودنا الإشارة إلى دور الدول الخارجية إلى الوقوع في فخ المقولات التي ترجع أي تغيير في المنطقة إلى إرادة تلك الدول، وتقزم الدور الذي تمارسه القوى المحلية. لذا لا بد من أن نشدد على مرة أخرى على تعبير تضافر العوامل الخارجية مع تلك الداخلية، حيث إن الأخيرة هي الأساس، والعامل الحاسم في موازين الصراع.
5- إسرائيل، ومرة أخرى يقتضي الأمر التحذير من تضخيم دور إسرائيل في مسار الأحداث في المنطقة العربية، واختزال الأمر في إرجاع الأمور إلى قرار تتخذه الدوائر الحاكمة في تل أبيب. لكن بالمقابل، يبقى العامل الإسرائيلي، عنصراً من الخطأ إهماله، عند رصد القوى المؤثرة في صنع تاريخ المنطقة المعاصر، حيث شاهدنا، إسرائيل، سواء استجابة لضغوطات الصقور في مجتمعها الداعين لبناء دولة «إسرائيل الكبرى»، أو طمأنة القوى البراغماتية المنادية بضمان حدود الدولة العبرانية الحالية، وامتلاك القدرة على صد أي خطر يهدد ذلك الكيان المصطنع، فجميع تلك الجهات الإسرائيلية دون استثناء، تجمع على الزج بالعامل الإسرائيلي في المعادلة السياسية الشرق أوسطية. ولعل شواهد مثل المشاركة الرسمية، مع فرنسا وبريطانيا، في العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956، وبعده الاجتياح الإسرائيلي للبنان في الأعوام 1978، 1982، و2007، على التوالي، وقصف المفاعل النووي في منتصف السبعينات، وعمليات اغتيال قادة المقاومة الفلسطينية في تونس في منتصف الثمانينات، شواهد حاضرة تؤكد حضور ذلك العامل عند المنعطفات الحادة في تاريخ هذه المنطقة، وليس «الربيع العربي» سوى واحد منها.
كانت تلك هي الأسباب الخمسة الموضوعية التي رصدناها، والتي تضافرت عناصرها مع أخرى ذاتية اتسمت بها القوى التي قادت أو شاركت، بشكل مباشر أو غير مباشر في أحداث «الربيع العربي»، وأدت إلى الإطاحة ببعض الأنظمة العربية، وزعزعت الأمن في البعض الآخر منها. من بين تلك السمات يمكن رصد الأهم فيها وهي:
1- التفتت الذاتي الاجتماعي لقوى «الربيع العربي»، وهو تشظ موضوعي له انعكاساته الذاتية على تلك القوى، فرضته الظروف المستجدة التي ولدتها ثورة الاتصالات والمعلومات، والقوى الاجتماعية التي أوجدتها، والأساليب المبتكرة التي وفرتها. ورغم الاجتهادات التي حاولت من خلالها القيادات التقليدية غير الشابة أن تتواءم مع تلك التطورات، كي تستفيد منها في توجيه أحداث «الربيع العربي» نحو أهداف برامجها، لكن نتائجها، على أرض الواقع كانت طفيفة، ولم تتجاوز تأثيراتها القشرة الخارجية لتلك التطورات، الأمر الذي كان من شأنه تقليص الحيز الذي كان يمكن لخبرة القيادات أن تساهم من خلاله، فيما لو اتبع «الربيع العربي» الطرق التقليدية نحو أهدافه. بالمقابل، كانت القيادات الشابة الخارجة من رحم ثورة الاتصالات والمعلومات تفتقد إلى الخبرة النضالية الضرورية التي تحتاجها معارك بمستوى المعارك السياسية التي سلك دروبها «الربيع العربي». هذا التنافر بين الخبرة التقليدية، والحماس الشاب، أحدث شرخاً اجتماعياً عمودياً عميقاً في جسد الكتلة البشرية التي انخرطت في «الربيع العربي»، فقاد إلى شل نسبة عالية من قدراتها من جانب، وزرع الكثير من عوامل الاختلاف والتناحر في صفوفها، بما فيها تلك القيادية من جانب آخر.
2- التشظي الفئوي السياسي ذو الجذور الدينية، أو القبلية، أو المناطقية، أو العقيدية الذي تفشى في جسد القوى التي أطلقت أو شاركت، في مراحل لاحقة في «الربيع العربي»، حيث شاهدنا الصراعات تتفجر بين تلك الفئات الفسيفسائية المختلفة، إما خلال الصراع مع النظام القائم، كما كان ذلك واضحاً في مصر وسوريا، أو بعد الإطاحة به في الحالة الليبية والتونسية. ولدت تلك الانشطارات الكامنة، قبل اندلاع الصراع حواجز عالية لم تتمكن قوى «الربيع العربي» من تجاوز البعض منها، مما أعاق حركتها في مراحل معينة، وخلق صراعات داخلية فيما بينها في مراحل أخرى. أتاحت تلك الصراعات، التي كان يفترض فيها أن تحتل حيزاً أقل بكثير من ذلك الذي حازت عليه، المجال أمام القوى الحاكمة كي تلتقط أنفاسها، وتعيد ترتيب صفوفها، وتنقض على القوى المطالبة بالتغيير، فتنجح إما في استنزاف طاقاتها في معارك جانبية، أو في جرها إلى معارك تتوافر فيها عناصر الغلبة للقوى القديمة، الأمر الذي أشاع، في حالات معينة، الإحباط في صفوف القوى المطالبة بالتغيير، فأضعفها، وحال دون قدرتها على حسم الصراع في اللحظة المناسبة. محصلة كل ذلك، كانت سلسلة التراجعات التي شهدها «الربيع العربي»، التي تحولت إلى ما يشبه الانقلابات التي، نجحت، كما هي الحال على نحو واضح في مصر، إلى الزج بالبلاد في صراعات تنذر بصدامات يصعب التكهن بنهاياتها.
في ضوء كل ذلك، ربما باتت هناك حاجة ماسة إلى إعادة قراءة أحداث «الربيع العربي»، وتداعياتها، بشكل موضوعي بعيداً عن أية عاطفة، سواء منحازة لصالحه، أو متعصبة ضده، تتمكن من تناول تلك الحالة «الربيعية» من زواياها المختلفة، المنطلقة أساساً من حاجة المنطقة العربية للتغيير، لكن ما هو أهم من ذلك هو قدرة تلك القراءة على الخروج بالاستخلاصات المنطقية التي تحدد مسارات ذلك التغيير، الذي نأمل أن يكون نحو الأفضل، مهما بلغت شدة تعرجاته، أو حدة انعطافاته. فالتحولات الكبرى في تاريخ الأمم لا تسير في خطوط، ولا يمكن لها أن تكون، ثنائية الأبعاد. فطبيعتها، وطبيعة القوى الداخلية والخارجية المشاركة فيها، تجعلها دائماً ثلاثية الأبعاد حلزونية الحركة، وهو ما يفسر حركتها المتذبذبة نحو الأعلى أو الأسفل، وانحرافها نحو اليمين أو الشمال، وزرعها بالتالي حالات الاكتئاب والتشاؤم التي تصاحبها لدى المصابين بقصر النظر أو ضيق الأفق.