لا يمكن أن تتأمل التجربة الكورية الجنوبية دون أن تدهشك وتسلب لبك. فالبلاد التي خرجت من حرب طاحنة مع جارتها الشمالية استمرت ثلاثة أعوام (1950 - 1953)، وجدت نفسها أمام تحدٍ حقيقي، فكان شعار الكوريين: نكون أو لا نكون. كان الجيل الذي قاد التغيير يردد كثيراً إما أن نصنع الفرق، وإلا يجب أن نموت! من رحم الأزمة يولد الابداع، والمرتخي لا يصنع تميزاً، والتحديات تصوغ النجاح. أفرزت الحرب الكورية، واقعاً صعباً، فالخسائر البشرية تقارب ثلاثة ملايين نسمة، والخسائر المادية تجاوزت 5.5 مليار دولار. أمسكت كرستي هيون لي، السيدة الكورية التي بلغت الأربعين، بصورة لسيئول في الخمسينات، كان الدمار هو سيد المشهد، والبيوت القليلة تحولت إلى كومة ركام. بيوت الصفيح تتناثر بعشوائية، ورائحة الفقر تعبق بالمكان وتفوح من الصورة، والعوز يكاد يطل برأسه، وقالت: كان والدي يعيش في هذا الوضع. سكتت برهة ثم قدمت لي صورة طفل في السادسة من عمره، يجلس القرفصاء وقد ارتدى بالكاد ما يستره من ثوب ممزق. كان حافي القدمين، يشع البؤس من عينيه، وقد امتلأت ساقاه بالجروح، وبدا وجهه متسخاً. قالت كرستي: كان هذا جيل والدي. ومن الممكن أن يكون والدي في مثل هذا المشهد، فقد حدثتني جدتي أن والدي كان يحتاج بنسين رسوماً للدراسة، ولم نكن نستطيع أن نوفرها له، فكان يذهب للمدرسة حافياً، دون أن ندفع المصاريف! استلت كرستي من كومة الأوراق صورة ليلية لسيئول، عاصمة كوريا الجنوبية، كانت لمشهد يضج بالصخب. ناطحات السحاب أضيئت بأنوار تعكس تطور المدينة، ثم قالت: هذه سيئول في جيلي أنا! إنها مشاهد لا يمكن إلا أن توقظ فيك تساؤلاً: كيف استطاعوا أن يفعلوا ذلك؟! قالت لي: كوريا الجنوبية هي الدولة الوحيدة في العالم التي انتقلت من الفقر المدقع إلى الغنى في جيل واحد. هل تريدون أن تتأكدوا من ذلك؟ الأرقام لا تكذب أيها السيدات والسادة. كان متوسط دخل الفرد سنوياً في كوريا في العام 1962 لا يتجاوز 87 دولاراً في العام. وبلغ متوسط دخل الكوري الجنوبي في العام 2011 ما يعادل 22500 دولار! كانت الصادرات في 1962 تعادل قيمتها 45.7 مليون دولار وفي العام 2011 بلغت الصادرات 555.200 مليون دولار. أما الاستيراد الكوري الجنوبي في العام 1962 فبلغ 421.8 مليون دولار، وفي العام 2011 بلغت الواردات 424.400 مليون دولار. كانت الصادرات الكورية في الستينات: 1- Iron Ore (الحديد الخام) 2- Squid (الحبار: حيوان رخوي بحري) 3- Raw Fis (السمك الخام) أما في 2011 فكانت أهم صادرات كوريا الجنوبية: 1- Shipbulilding (الناقلات البحرية الضخمة)، تمتلك كوريا أضخم 6 ناقلات في العالم! 2- Petroeum Products (المنتجات النفطية) 3- Semiconductors (الشرائح الإلكترونية) وارتفع متوسط أعمار الكوريين مع فارق المعيشة والتعليم والخدمات الصحية من متوسط 52.6 عام للرجال و53.7 للنساء في العام 1962 إلى 77 عاماً للرجال و84 عاماً للنساء، بينما كانت نسبة الملتحقين بالكليات من خريجي الثانويات العامة في 1962 لا تتجاوز 8.4? وقفزت في العام 2011 لتبلغ 82?. لقد تضاعف دخل الفرد في كوريا بين 1970 و2010 أكثر من 500 ضعف وتضاعفت عوائد الصادرات الكورية في الفترة ذاتها 300 ضعف. إن الواقع الكوري الجنوبي اليوم يقول لنا إن البلاد هي الأولى عالمياً في صناعة الناقلات والأولى عالمياً في صناعة رقائق الذاكرة الإلكترونية MEMORY CHIP، والأولى عالمياً في صناعة بطاريات الليثيوم، والرابعة عالمياً في صناعة السيارات، والسادسة عالمياً في صناعة الفولاذ. جلستُ إلى خمسةٍ من صانعي التحوّل الكوري، فسألتهم أن يلخّصوا لي السر في تحولهم المدهش من واحدةٍ من أفقر دول العالم إلى واحدةٍ من أغنى دول العالم خلال جيلٍ واحد، فأجابوني مجتمعين: “ثمة ثلاثة أسرار يمكن تلخيصها فيما يلي: التعليم ... التعليم ... ثم التعليم”!