تأسيساً على ما تحدثنا عنه حول أهمية المنشآت الصغيرة والمتوسطة في الاقتصاد العالمي، وانطلاقاً من تشخيصنا للصعوبات الموضوعية والذاتية التي ما تزال، حتى اليوم، تقف في طريقها، وتشكل حائلاً دون قدرة تلك المنشآت على ممارسة الدور الذي ينبغي لها القيام به، ومن ثم احتلال المكانة التي تستحقها، يمكننا رصد جوانب الاهتمام الذي ينبغي أن تحظى به، إن أريد لها الاستفادة من تلك الإيجابيات، وتجاوز تلك العقبات، والتي يمكن إيجاز الأهم من بينها في الخطوات والسياسات والإجراءات التالية:
1- نشر الوعي المجتمعي الضروري، من خلال مجموعة من القنوات الفعالة المتكاملة الخاضعة لبرامج توعوية متواصلة. وهنا ينبغي التحذير من الوقوف عند حدود بعض البرامج الإعلامية المتناثرة التي تكتفي بالاستخدام الشكلي للنشرات المطبوعة، أو البرامج المتلفزة المرئية، أو تلك التي تبثها المحطات الإذاعية. فالتوعية تحتاج إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، إذ تقتضي سياسات التوعية الناجحة خلق قنوات إعلامية تفاعلية حية تنسج علاقات منتجة تخاطب، ومن ثم تساعد الأطراف كافة الضالعة في عملية التأسيس لاقتصاد ديناميكي معاصر يولي المنشآت الصغيرة والمتوسطة الاهتمام الذي تستحقه، سواء كان ذلك الطرف الجهة المشرعة التي تقع على عاتقها مسؤوليات سن القوانين ووضع الأنظمة، أو القوى المؤسسة صاحبة المشاريع التي ستتولى عمليات الإنتاج وتوفير الخدمات، أو المؤسسات التي ستقوم على برامج التسويق والترويج، أو الفئات المستهلكة المتلقية. فإذا لم تتفاعل تلك العمليات التي تربط بين هذه الحلقات الأربع في نظام متكامل، يصعب الحديث عن دور مميز مؤثر بشكل إيجابي لتلك المنشآت، في اقتصاد يطمح للاعتماد عليها.
2- بناء البيئة الصالحة والملائمة، وهي عملية معقدة، وتقتضي الاستمرارية ولا تستغني عن التواصل، وترتكز أساساً على سن القوانين، ووضع الأنظمة، وتوفير البيئة الحاضنة المناسبة، ووضع الخطط والبرامج الملائمة، وإنشاء الأجهزة الرقابية القادرة على تنفيذ أعلى درجات الشفافية في عمليات تلك المنشآت، وقبل ذلك في وضع السياسات التي تسيرها. وهنا تتكامل مساعي إيجاد البيئة الصالحة، مع برامج نشر الوعي في نظام شامل، يوفر للمنشآت الصغيرة والمتوسطة المنصة التي هي في أمس الحاجة لها للانطلاق منها، والقوى البشرية العاملة فوقها والمستفيدة من الخدمات التي تقدمها، والتي تنظم العلاقات الضرورية المطلوبة بينها وبين تلك المنشآت. وينبغي التحذير هنا من أن عملية البناء والتشييد هنا، هي الأخرى عملية مستمرة متواصلة، لن تكون ناجحة ما لم تخضع للبرامج التي تمدها بالقدرة على الاستمرار، والأجنة التي تمكنها من التطور. فهي ليست مجرد قرارات فوقية، ولا إجراءات آنية، وإنما عملية متواصلة، بحاجة إلى أكسير التطور والنمو.
3- التأهيل العلمي والمهني، إذ من الخطأ حصر فهم طبيعة المنشآت الصغيرة والمتوسطة، على أنها مجرد تصغير شكلي لتلك الكبيرة والعملاقة، فقد باتت تلك الأولى تتمتع بمواصفات مختلفة نوعياً عن أي منهما، سواء في إجراءات التأسيس، أو عمليات التسيير والإدارة، ومن ثم فقد بات من الضرورة بمكان أن تحظى تلك المنشآت باهتمام خاص، يزودها بالموارد البشرية المؤهلة القادرة على خلقها وبناء إداراتها، ومن ثم تسييرها بشكل سليم يقوم على مرتكزات علمية صحيحة، وينطلق من فرضيات نظرية موثوق بها. هنا سيجد المجتمع نفسه أمام خيار واحد ليس هناك سواه، وهو بناء نظام تعليمي وتأهيل مهني خاص بتلك المؤسسات، يسبر قوانين تأسيسها، ويراقب آليات تسييرها، ويتفاعل مع برامج ترويجها. أكبر خطأ يمكن أن يرتكب هنا، عندما يحاول ذلك المجتمع، الخاضع لبعض الأوهام أو التبريرات، أن يتحاشى التخصص في سياسات التأهيل المطلوب، والاكتفاء بإلحاقها ببعض المعاهد أو الجامعات القائمة، التي لن يكون في وسعها تلبية احتياجات سوق تشهد انتعاشاً حقيقياً لتلك المنشآت.
4- التغيير النوعي في سياسات التمويل، فمن أكبر العقبات التي تواجه أي من المنشآت الصغيرة والمتوسطة هي آليات التمويل التقليدية التي ما تزال نسبة من المصارف التجارية أو حتى الاستثمارية تصر على التمسك بها عند محاولات تلك المنشآت الاقتراب منها أو نسج أي شكل من أشكال العلاقة معها. إذ تستنفذ إجراءات التمويل والبيروقراطية التي تحيط بها، جهود الموارد البشرية لتلك المنشآت، وتستنزف نسبة عالية من إمكاناتها النقدية المحدودة ، الأمر الذي يقود إلى شل حركتها، وفي أحيان كثيرة إلى قبرها. ومن ثم فهناك حاجة إما إلى نسف تلك المقاييس القائمة من جذورها، عند التعامل مع تلك المنشآت، واستبدالها بأخرى غيرها، من تلك الملائمة لها، أو، وهو الخيار الأفضل، تأسيس مصارف ومؤسسات تمويلية خاصة بها تقع على عاتقها مسؤولية القيام بهذه المهمة، بعد أن تضع قوانين التمويل الصحيحة. ولعل في النجاح الذي حققه “بنك الفقراء” الذي تأسس في البنغال بمبادرة فردية الكثير من العبر في هذا الاتجاه.
5- تفعيل دور الحاضنات، وهي ظاهرة رافقت بروز تلك المنشآت، وتطورت معها وفي أكثر من اتجاه. فهناك الحاضنات التي شهدناها في المؤسسات العلمية من جامعات مشهورة مثل جامعتي “هارفرد” و«برنستون” في الولايات المتحدة، وشكلتا تجارب ناجحة في كيفية احتضان تلك الجامعات للكثير من بذور تلك المنشآت قبل تحولها إلى مؤسسة تنشط في السوق. ولعل في ظواهر مثل “فيسبوك”، و«تويتر”، وقبلهما “غوغل” وسبقتها “ياهو”، قبل أن تتحول أي منها إلى شركة عملاقة، الكثير من التجارب التي يمكن الاستفادة منها على هذه الطريق. والتوأم الحقيقي لهذا الاحتضان الأكاديمي، هو بروز ظاهرة “المصارف الجريئة”، التي يسكن في صلب سياساتها التمويلية احتضان تلك المنشآت، وهي ما تزال أنوية في المراحل المبكرة من نشأتها، وتحويلها من مجرد ظاهرة محدودة، وفي أحيان كثيرة فكرة قابلة للتنفيذ، إلى شركة نشطة في السوق. ومن الطبيعي أن ينتهي الأمر إلى نظام ثلاثي متكامل قادر على تنظيم العلاقة بين تلك الأطراف: صاحب أو أصحاب فكرة صالحة لتأسيس منشأة صغيرة، المؤسسة الأكاديمية، بنك الرأسمال الجريء.
في ضوء كل ذلك، يمكننا أن نستخلص أن أي اقتصاد وطني يطمح في أن يكون معاصراً، ومن ثم قادراً على التفاعل بكفاءة وندية مع اللاعبين في السوق العالمية، لم يعد في وسعه القفز على الدور الإيجابي، على هذا الطريق، الذي بوسع المنشآت الصغيرة والمتوسطة أن تمارسه، ومن ثم فلم يعد هناك مناص، لمن يريد أن يدخل السوق العالمية، ويكون أحد اللاعبين الناجحين فيها، أن يهمل ذلك الدور.
هذه القناعة، لا يمكن أن تتحول إلى اقتصاد ناجح، ما لم يدرك القائمون عليه، أهمية تلك المنشآت، ويتلمسوا العقبات التي تقف في طريقها، ويضعوا الحلول المناسبة التي تستفيد من ذلك الدور، وتضع حداً لتلك العقبات، وفي ذلك الكثير من التحدي لمن لا يملك الذهنية الديناميكية التي يحتاجها اقتصاد المنشآت الصغيرة والمتوسطة.