النهج الطائفي من شأنه تمزيق الوحدة الاجتماعية للمجتمع، بل وإلى تمزيق الهوية الثقافية للشعب، خاصة إذا ما تعززت الطائفية بالعصبية القبلية والمناطقية، بما يؤدي إلى نوع من العصبية الاجتماعية المركبة والمقيتة، تتعدى على الدين وعلى الدولة وعلى العقلانية والمصلحة العامة، لتلج دهاليز اللاوطنية، فكراً وممارسة، وذلك لأنها لا تقيم وزناً للوطن والمواطن والمواطنة، ولا يمكن في هذا السياق القبول بالتبرير الوهمي الذي يردده البعض باعتبار الطائفية شكلاً مرحلياً للتعبير عن الوطنية، وذلك لأن الطائفية –وليس الطائفة-هي نقيض بالضرورة للوطن وللوطنية، حيث يقوم البعض وبالانتهازية السياسية والفكرية واقتناص الفرص السياسية باستغلال الحركات الطائفية، من أجل مصالحهم الشخصية، وليس من أجل مصالح الحركتين السياسية والاجتماعية ومسيرة العملية الديمقراطية الحق، ولتتحول مفاهيم السنة والشيعة والعرب وغير العرب الأصلي والمجنس، إلى قيم كاريكاتيرية يجري خداع فقراء وعمال الطوائف والقوميات المختلفة بها، وتسليم القيادات للقوى الاستغلالية المتخلفة، وليتذابح البسطاء بينهم، وهم يظنون أنهم يقدمون على الشهادة في سبيل الله والوطن والطائفة، وبذلك يعجز النظام الطائفي المستبد، عن إنتاج الحداثة وعن فهم الإسلام معاً فهماً مستنيراً، يكون في خدمة الحق والحرية والعدالة والمساواة بين المواطنين الأحرار.
المصيبة بدأت عندنا عندما نشط الإسلام السياسي لتجنيد المريدين لمشروعه الطائفي الفقير فكراً واستنارة، وتمكن في فترة وجيزة من تصدر الواجهة السياسية، والسير بالبلاد نحو الفتنة الداخلية، بحشو الأدمغة بالخرافات وبالمعارك الدونكيشوتية المستحضرة من ماضي التخلف للأمة، وهو اليوم يراهن في نجاح مشروعه الطائفي على رجال الدين وأشباههم، ليكون دعاة التحريض والفتنة المستطيرة.
لقد كان تشجيع الاستعمار للولاءات اللاوطنية وتحفيزه حراك المجتمع الأهلي هو سياسة ثابتة متعمدة، لبناء المؤسسات السياسية التي أقامها وفق مظلة الأفكار الطائفية، والإبقاء على البنية التقليدية بكل هياكلها الأساسية، وإسناد الثقافات الخرافية والظلامية والطائفية سائدة بين الشعوب.
وحتى حين نشأت الحركات التحررية الوطنية والقومية والدينية المختلفة، فإن هذه الحركات واصلت إعادة إنتاج الثقافة الطائفية والتخلف والجهل والتناحر، حين أضفت على الصراع الاجتماعي طابعاً غيبياً يخفي حقيقته وجوهره الاجتماعي والاقتصادي، وبهذه الطريقة تأسست الجمعيات السياسية من بين الجماعات المذهبية المختلفة على أساس إنكار الطابع الاجتماعي للمشكلة، تعبيراً عن النظرة السطحية والطابع الديكتاتوري العميق داخل هذه الحركات الذي يتجسد عملياً في القمع العنيف المتنوع لكل من يطرح موضوعية الانقسام الاجتماعات الغوغائية، وحتى الإسلام فيتعامل معه الطائفيون بطريقة انتقائية فيتحول إلى ما يشبه الحيازة الطائفية، وبذلك يسعى الطائفيون لجعل الوطن غنيمة طائفية لزعماء الطائفية، في خدمة المشروع الطائفي المتناقض جوهرياً مع المشروع الوطني.
فالوطن وفق الجمعيات الطائفية هو مجرد غنيمة طائفية للتقاسم والمحاصصة، التي يستفيد منها زعماء الجمعيات الطائفية وعائلاتهم وأحبابهم المقربون، وعندما يستعصي الوطن عن التحول إلى مجرد غنيمة، يعود هؤلاء السياسيون إلى الدعوة لتشكيل نظام للمحاصصة أو تقسيم السلطة -إذا استحال السيطرة عليها- والعمل على تغيير الأمور في اتجاه تغليب سلطة طائفة على طائفة أخرى، المهم أنه لا وجود لمواطنين متساوين: إما هيمنة طائفية وإما محاصصة للحفاظ على النقاء الطائفي، ولما كانت أهداف الجماعات والجمعيات الطائفية لا وطنية، فهم لا يعبؤون بأية آلية وطنية للعمل السياسي، وجل اهتمامهم يدور حول المحافظة على الجنات الطائفية وفراديسها المادية والاستحواذية.