من لاديمقراطية إلى ديمقراطية كاملة، هل هذا ممكن عملياً؟ وهل هذا النوع من التحوّل قابل للإنجاز وللاستمرار؟ هل يمكن الانطلاق من حالة استبداد كامل إلى ديمقراطية كاملة؟ أسئلة مهمّة جوابها مدار نقاشات مطوّلة ذات طابع فكري وسياسي - اجتماعي في ذات الوقت، فأغلب التوجهات في هذا المجال تميل إلى المرحلية كآلية للانتقال من حالة اللاديمقراطية إلى الديمقراطية الكاملة والتي لا تقتصر على الانتخابات والتداول السلمي على السلطة، بل ترتبط بنشر وانتشار الثقافة الديمقراطية بكافة مكوناتها الثقافية والسياسية والحقوقية. فالقفز من حالة الاستبداد إلى حالة الديمقراطية الكاملة غير ممكن من الناحية العملية إلا في حالة الثورات التي لا تبقي ولا تذر، وفي هذه الحالة فإن الحالة الثورية غالباً ما ترتبط بحالة من الفوضى والاعتداء والانتقام وبالتالي يتم إحلال ما يسمى بالديمقراطية الثورية محل الحالة السابقة وهي في الغالب حالة معادية للديمقراطية والحقوق عامة. ولاشك هنا أن المجتمع المدني يلعب الدور الأكبر في بناء الثقافة الديمقراطية وتأسيس التوجه الديمقراطي في النهاية، ولذلك يمثل اليوم تحدياً مفهومياً ومعرفياً جديداً لثقافتنا السائدة، لا فقط لغياب تقاليد الحرية والاختلاف والتسامح والمواطنة، ولكن أيضاً لأخطاء بعض المنظرين لهذا المفهوم ولعل من أبرزها سعيهم إلى إسقاطه على الواقع العربي بمنطق غربي لا يأخذ بالاعتبار خصوصية العلاقة بين السياسة والدين وجدلية المراحل في بناء الديمقراطية الوطنية على أسس دستورية مؤسساتية، إذ إن هشاشة التجارب العلمانية في الحقل الثقافي والسياسي العربي ترجع لأسباب عديدة من أهمها غياب الفهم الواقعي لطبيعة السياسة والاجتماع والخلط بين علاقة الدين بالسياسة وعلاقة الدين بالدولة، سواء من ناحية عقلنة المؤسسات المدنية، أو من ناحية مفهوم العقد الاجتماعي والوفاق التاريخي، فهشاشة التجارب العلمانية ترجع إلى الفجوة الحاصلة بين الجانب الفلسفي النظري للمفهوم، وبين المنظور الاجتماعي الذي يتطلب انخراط المثقفين في مختلف جبهات التحديث الاجتماعي “الجمعيات ـ المؤسسات الإعلامية ـ المنظمات المهنية ـ الأحزاب السياسية وغيرها...”. وذلك لأن المجتمع المدني الذي نعنيه هو سلطة المجتمع في فرض مشروعية الدولة والفصل بين السلطات لتكون السلطة تعبيراً عن إرادة الناس، وهو أيضاً إشاعة ثقافة التعددية وحرية التعبير والفكر والمعتقد وحرمة المواطن وقدسية الوطن، ولكن هذه السلطة المجتمعية لا تتكرس إلا في مؤسسات وقوانين “جمعيات ـ إعلام وأحزاب” يضمن وجودها دستور وآليات تشريعية تعبر عن حل وسط تاريخي بين مكونات المجتمع، كما إن شروط تحقيق هذا الواقع في حياتنا المدنية يمكن توفيرها إذا توفقنا إلى مقاربة شاملة للمشاركة السياسية، ودور الدين في الحياة وحدود وظيفته في السياسة، إضافة إلى معنى المواطنة وشروطها، فكلما تأخر المجتمع المدني في التشكل والوجود والفعل في التصدي لإشكالات الديمقراطية والأيديولوجية الدينية وحقوق الإنسان العربي في المواطنة الحرة، تفاقمت هذه المشكلات، وذلك لأن المجتمع المدني هو قبل كل شيء مطلب تاريخي لا مفر منه يتحمل فيه المثقفون المسؤولية الأُولى إذا تخلصوا من عقدة الاستقالة من الشأن العام ولوثة الأيديولوجيا الطوباوية ونزعة التبعية للسلطات بكافة أشكالها وأولها سلطة المرجعية الدينية التي تجعل أي ثقافة ديمقراطية دون معنى ودون محتوى على الصعيد العملي لأنها تعمل في اتجاه معاكس لتكريس الديمقراطية والعقلانية في السياسة والمجتمع والفكر. إن الاعتقاد بإمكانية إنجاز الديمقراطية دفعة واحدة بمجرد استيلاء المعارضة على السلطة هو اعتقاد ساذج وغير واقعي، والأمثلة في الواقع العربي أو غير العربي تؤكد على استحالة حدوث مثل هذا التحول الغرائبي، بل إن الحقيقة التي لاشك فيها أن الديمقراطية بناء تدريجي وحضاري لا علاقة له في البداية بموضوع الصراع على السلطة بقدر ما له علاقة بنشر القيم الديمقراطية بكل مكوناتها.