الجماعات الإيديولوجية المؤثرة في الحياة الاجتماعية والسياسية عندنا تعمل حثيثا وبعمق وإصرار على قولبة الأجيال الجديدة بشكل مؤذ وحاسم، يمنعها من امتلاك أي أفق للنظر خارج تلك القولبة التي تتضمن حزمة من الأفكار والرؤى السطحية” النهائية”حول الحياة والموت والمجتمع والإنسان، بما يؤدي إلى بناء جدار إسمنتي في أذهان هذه الأجيال الجديدة التي تزج به ضمن أفق أصولي مطلق يقود إلى إلغاء العقل الفردي، وتدمير الفردية والاستقلالية الفكرية في مواجهة الرؤى ذات التأثير والتي لا ترى للفرد استقلالية خاصة، فكراً وممارسة. فالفرد في هذا السياق يفقد أي قيمة خارج إطار الجماعة الإيديولوجية وخصوصاً الدينية الطائفية، لأنها لا تطيق الفردية ولا الحرية ولا حق الفرد في أن يكون له وجوده الخاص ورؤيته الخاصة للعالم والأشياء بعيداً عن القوالب الجاهزة التي تضع البداية والنهاية والممكن وغير الممكن.
الديمقراطية الحقيقية في البلدان الديمقراطية تكون فيها القوانين الفاعلة في المؤسسات كافة مبنية صراحة أو ضمناً على حقوق تكفل لكل فرد ولكل فئة اجتماعية حريات التفكير والتعبير والتنظيم والعمل في إطار ديمقراطي سلمي، بل إن المجتمعات الحديثة تشجع على الفكر والإبداع حتى كأن الدولة والمجتمع تطالب بالمزيد من الإنتاج الخلاّق في المجالات الثقافية والفكرية، في العلم والفكر والفن، ففكر الاختلاف هو الذي يقود الثقافة ويدفع بالحياة الاجتماعية كلها إلى المزيد من الإنجازات باستمرار، هذا بعكس الخطاب الأيديولوجي الذي ينزع إلى الجمود والتشبث بمصالح فئوية ضيقة، ويسعى إلى استمراريته دون تغيير أو تطوير ليكون مقدساً وثابتاً لفترات طويلة في المجتمع، بما يؤدي إلى الفساد المولد لمختلف أشكال الاحتقانات التي ما إن تنفجر حتى تتحول إلى طوفان هائج يدمر كل شيء في طريقه. ولذلك فإننا نعتقد أن كل مجتمع لا يختلف فيه الناس في الرأي هو مجتمع غير طبيعي، لأن النمطية الموحدة في الفكر والموقف مرادفة للدكتاتورية والتسلط، ولأن الحق في الاختلاف يثري كل يوم حياة الدول المتقدمة والديمقراطية بألف طريقة وطريقة، لأن هذا الحق مصدر مهم في مجال هوية الإنسان وحقوقه الأساسية.
المصيبة أن هذا التغول للإيديولوجي يتبدى، بعد ذلك، حتى في الإنتاج الثقافي، حتى في الحقل المعرفي والثقافي عند مسلماته الخاصة التي لا تقبل التغيير أو التبديل، بحيث يصبح الأيديولوجي هو الذي يحدد مسار المعرفي. فالتبعية للانتماء السياسي الإيديولوجي صارت هي الحاضر الأهم في عموم التفاعلات. ولذلك أصبح السجال يتقدم على حساب الحوار، والانغلاق على الانفتاح، إنها المقدسات الجديدة التي لا يمكن المساس بها لأنها تؤدي إلى جرح مشاعر الإيديولوجيين المقدسين وثقافتهم المقدسة وأفكارهم المقدسة ووثائقهم المقدسة ورموزهم المقدسين.
إن الواقع هنا يتم تصنيعه في معمل الأيديولوجيا الذي توقف التصميم المعرفي فيه، عند شعارات تفرض عليه الإذعان.