طرح أحد الأصدقاء من قدامى اليسار سؤالاً، تعقيباً على المراجعات لمتاهة يسارنا، التي نشرت منها حلقتين في” الوطن” قبل عدة أيام، يتساءل الصديق في تعقيبه: “ما الذي أدى بيسارنا إلى هذا المنحدر؟ وما الذي أصابه بالشلل والعجز شبه الكاملين؟ وما الذي جعله يتراجع حضوراً وتأثيراً وفاعلية، بعد أنْ كان في يوم ما في الطليعة؟
قلت رداً على ذلك:عندما نحاول فهم الإشكاليات التي تواجه يسارنا يتضح لنا أنه يعاني من حالة مرضية متفاقمة آلت به إلى الحالة المأزومة، فبدلاً من أن يتجدد ويتطور، نراه يتمسك بشعارات ومفردات وحتى تحليلات كانت قبل خمسين أو ستين سنة صحيحة، غير أنها لم تعد كذلك اليوم.
صحيح أنَّ العديد من المحددات المرتبطة بتعريف الانتماء لليسار قد تغيرت أو على الأقل تعدَّلت كثيراً: فمن جهة، الاتحاد السوفيتي لم يعد قائماً والمعسكر الاشتراكي أصبح في خبر كان. أضف إلى ذلك أنَّ الطبقات لم تعد كما كانت من قبل، لا من حيث تركيبتها ولا من حيث وظيفتها، فالصراع في المجتمعات المتقدة صناعياً يميل اليوم إلى الكفاح من أجل توازن المصالح، إنه لم يعد صراعاً طبقياً بالمعنى الماركسي التقليدي للكلمة، فهذه فكرة لم تعد تحظى بأيِّ اهتمام، على الأقل في أوساط المفكرين الذين في عقولهم متسع لآراء أخرى وقابلة للمراجعة، في حين أنَّ يسارنا ما يزال بعيداً جداً عن تلك المراجعات، وكأنه يعيش في عالم آخر، ويبدو أن خياراته الجديدة قد أوصلته إلى مغادرة موقع اليسار إلى البحث عن أفق ضمن تركيبة التيارات الدينية، بعد أن أمضى عقود في محاربتها، وبذلك دخل هذا اليسار إلى متاهة من الانحرافات الفكرية والعملية على الأرض:
أولاً: خسر يسارنا بعض “مناعته” وهويته، نتيجة تطوّر مزدوج: من جهة، التحاقه التدريجي بالليبرالية الاقتصادية على صعيد المنظور الاقتصادي الاجتماعي، وفقدانه العميق - من جهة أخرى- للمعايير السياسية بجعل التحالف مع التيار الديني الطائفي -بغض النظر عن محتواه- المثال الأعلى البديل لتحالف قوى اليسار والتقدم والعقلانية، التي بدت وكأنها لا تمتلك مشروعاً سياسياً خاصاً بها في ظل هذه التبعية، حيث بدت هذه التنازلات أقرب إلى الانعطاف الأيديولوجي منها إلى تكتيكات طارئة.
ثانياً: تعرّض يسارنا للعديد من الصدمات التي جعلته عرضة لكافة أشكال الغموض الشفهي والفكري، فتفكك الدكتاتورية والفشل الاقتصادي الذي شهده الاتحاد السوفيتي، والصلافة السياسية لبعض ممثلي الاشتراكية الديمقراطية وتحلل الموجة التحرّرية في السبعينات من القرن الماضي، كل ذلك أدّى إلى أزمة هوية عميقة، إن لم نقل إلى كآبة جماعية في أوساط هذا اليسار، الذي لم يعد يعرف ما يريد على الأرجح، يظهر ذلك في تخبطاته المتكررة وتحالفاته المفارقة للمنطق والتاريخ.
ثالثاً: أصبح الفكر الديني خلال العقدين الأخيرين ملاذاً وشعاراً لبعض يساريينا، حيث إنَّ الجماعات الإسلامية لم تعد مجرد جماعات متشددة، أو مجرد مجموعات من رجال الدين، الذين يمثلون بقايا المجتمع القديم! بل أصبح التيار الديني إطاراً سياسياً يحمل مفارقة من نوع ما، فهو يضم قوى مطالبة بالتغيير السياسي أغلبها مهمشة محرومة، وبعضها من بين أبناء الطبقة الوسطى، ولكن هذا الإطار ذاته هو إطار للمحافظة وخزان للأفكار التقليدية المعادية للحداثة والتقدم والحرية، وبدلاً من شن الحرب على الطائفية والطائفيين، وقع جانب مهم من هذا التيار في أحضان المشروع الطائفي نفسه، في إطار تكتيكات ساهمت في إحراق جانب من هذا التيار، وإبرازه في صورة المتورط في صفقة انتهازية، من خلال استجداء عدد من المقاعد البرلمانية من جمعية دينية، لها أجندتها الخاصة وهي من وجهة نظر “اليسار” نفسه، وبحسب تشخيصه الفكري والسياسي جمعية طائفية فكراً وبرامجاً والتي لا يمكن، وفي جميع الأحوال أن تلتقي على أيِّ مستوى مع البرنامج اليساري بكافة تعبيراته الحزبية المبدئية، ومن المؤسف أن بعض يساريينا فضَّل الارتباط بهذه القوى لقناعته بأنها قادرة على إحداث التغيير، ولكن ما هو هذا التغيير وما مضمونه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والإنساني؟
لم يعد يطرحه يساريونا بجدية، وقد أدى ذلك إلى عجز اليسار عن التأثير في حركة الواقع إجمالاً، وضعف تأثيره في المجتمع وعجزه شبه الكامل عن استقطاب الجمهور الواسع من المواطنين، وعجزه عن إنجاز أيٍّ من المهام المعلنة، سواء بسبب التأثر بالقوالب الجاهزة، أو بسبب التشخيص الخاطئ لطبيعة المجتمع والسلطة معاً، وبالتالي العجز عن تحديد محركات وأولويات التغيير.